بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار بألوهيته ، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد إلا لوجهه ، فكل معبود سواه فهو باطل ، والله هو الإله الحق المتصف بصفات الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية ، فالحي من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات التي لا تتم ولا تكمل الحياة إلا بها كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء والدوام والعز الذي لا يرام { القيوم } الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته ، وقام بغيره فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد والإمداد ، فهو الذي قام بتدبير الخلائق وتصريفهم ، تدبير للأجسام وللقلوب والأرواح .
ثم وصف - سبحانه - ذاته بما يليق به من جلال وكمال فقال : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } .
ولفظ الجلالة { الله } يقول بعض العلماء : إن أصله إله ، دخلت عليه أداة التعريف " ال " وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله .
قال القرطبي : قوله { الله } هذا الاسم أكبر أسمائه - تعالى - وأجمعها حتى قال بعضهم : إنه اسم الله الأعظم ، ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع ، فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الألوهية ، المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقى ، لا إله إلا هو سبحانه - .
ولفظ " إله " قالوا : إنه من أله أى عبد ، فالإِله على هذا المعنى هو المعبود وقيل هو أله أى تحير . . وذلك لأن العبد إذا تفكر فى صفاته - تعالى - تحير فيها ، ولذا قيل : تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله .
و { الحي } أى : المتصف بالحياة التى لا بدء ولا فناء لها .
و { القيوم } الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم ، المعطى لهم ما به قوام حياتهم ، وهو مبالغة فى القيام وأصله قيووم - بوزن فيعول - من قام بالأمر إذا حفظه ودبره .
والمعنى : الله - تعالى - هو الإِله الحق المتفرد بالألوهية التى لا يشاركه فيها سواه . وهو المعبود الحق وكل معبود سواه فهو باطل ، وهو ذو الحياة الكاملة . وهو الدائم القيام بتدبير شئون الخلق وحياطتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم .
قال الآلوسى : ولفظ الجلالة " الله " مبتدأ وما بعده خبر . والجملة مستأنفة ، أى : هو المستحق للعبودية لا غيره . و { الحي القيوم } خبر بعد خبر ، أو خبر لمبتدأ محذوف أى : هو الحى القيوم . . وأياً ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق العبودية به - سبحانه - وقد أخرج الطبرانى وابن مزدويه من حديث أبى أمامة مرفوعا أن اسم الله الأعظم فى ثلاث سور ، فى سورة البقرة ، وآل عمران ، وطه .
وقال أبو أمامة : فالتمستها فوجدت فى البقرة { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } وفى آل عمران { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } وفى طه { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم }
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ، وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ، والله عزيز ذو انتقام . إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم . هو الذي أنزل عليك الكتاب : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله - وما يعلم تأويله إلا الله - والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا - وما يذكر إلا أولو الألباب - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ، إن الله لا يخلف الميعاد ) . .
هكذا تبدأ السورة في مواجهة أهل الكتاب المنكرين لرسالة النبي [ ص ] وهم بحكم معرفتهم بالنبوات والرسالات والكتب المنزلة والوحي من الله ، كانوا أولى الناس بأن يكونوا أول المصدقين المسلمين . لو أن الأمر أمر اقتناع بحجة ودليل !
هكذا تبدأ السورة في مواجهتهم بهذا الشوط القاطع ، الفاصل في أكبر الشبهات التي تحيك في صدورهم ، أو التي يتعمدون نثرها في صدور المسلمين تعمدا . والكاشف لمداخل هذه الشبهات في القلوب ومساربها . والمحدد لموقف المؤمنين الحقيقيين من آيات الله وموقف أهل الزيغ والانحراف ! والمصور لحال المؤمنين من ربهم والتجائهم إليه ، وتضرعهم له ، ومعرفتهم بصفاته تعالى :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . .
وهذا التوحيد الخالص الناصع هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد ، سواء منها عقائد الملحدين والمشركين ، وعقائد أهل الكتاب المنحرفين : يهودا أو نصارى . على اختلاف مللهم ونحلهم جميعا . كما أنه هو مفرق الطريق بين حياة المسلم وحياة سائر أهل العقائد في الأرض . فالعقيدة هنا تحدد منهج الحياة ونظامها تحديدا كاملا دقيقا .
( الله لا إله إلا هو ) . . فلا شريك له في الألوهية . . ( الحي ) . . الذي يتصف بحقيقة الحياة الذاتية المطلقة من كل قيد فلا شبيه له في صفته . . ( القيوم ) . . الذي به تقوم كل حياة وبه يقوم كل وجود ؛ والذي يقوم كذلك على كل حياة وعلى كل وجود . فلا قيام لحياة في هذا الكون ولا وجود إلا به سبحانه .
وهذا مفرق الطريق في التصور والاعتقاد . ومفرق الطريق في الحياة والسلوك .
مفرق الطريق في التصور والاعتقاد . بين تفرد الله - سبحانه - بصفة الألوهية وذلك الركام من التصورات الجاهلية : سواء في ذلك تصورات المشركين - وقتها في الجزيرة - وتصورات اليهود والنصارى - وبخاصة تصورات النصارى .
ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم كانوا يقولون : عزير ابن الله . كما أن الانحراف الذي سجله ما يعتبره اليهود اليوم " الكتاب المقدس " يتضمن شيئا كهذا . كما جاء في سفر التكوين : الإصحاح السادس .
فأما انحرافات التصورات المسيحية فقد حكى القرآن منها قولهم : إن الله ثالث ثلاثة . وقولهم : إن الله هو المسيح بن مريم . واتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله . واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله . .
وقد جاء في كتاب " الدعوة إلى الإسلام " تأليف أرنولد ، شيء عن هذه التصورات . .
ولقد أفلح جستنيان قبل الفتح الإسلامي بمائة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهرا من مظاهر الوحدة . ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته ، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك ، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة . أما هرقل فقد بذل جهودا لم تصادف نجاحا كاملا في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية . ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلا من القضاء عليه . ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية . فحاول بتفسيره العقيدة تفسيرا يستعين به على تهدئة النفوس أن يقف ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات ؛ وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية ، وبينهم وبين الحكومة المركزية . . وكان مجمع خلقيدونية قد اعلن في سنة 451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين لا اختلاط بينهما ، ولا تغير ، ولا تجزؤ ، ولا انفصال . ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما . بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها ؛ وتجتمع في أقنوم واحد ، وجسد واحد . لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين . بل متجمعة في أقنوم واحد هو ذلك الابن والله والكلمة . . وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع ، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة . وقالوا : إنه مركب الأقانيم . له كل الصفات الإلهية والبشرية . ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية . بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم . . وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية ، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة . ففي الوقت الذي نجد فيه هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين ، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية . وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد . فالمسيح الواحد ، الذي هو ابن الله ، يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي بقوة إلهية إنسانية واحدة . ومعنى هذا أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة . . لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جدا ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام . ذلك بأن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب ، بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد ، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء "
كذلك يقول باحث مسيحي آخر هو " كانون تايلور " عن الحالة بين نصارى الشرق عند البعثة المحمدية : " وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة " .
أما انحرافات عقائد المشركين فقد حكى القرآن عنها : عبادتهم للجن والملائكة والشمس والقمر والأصنام . وكان أقل عقائدهم انحرافا عقيدة من يقولون عن هذه الآلهة : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) !
فأمام هذا الركام من التصورات الفاسدة والمنحرفة التي أشرنا إليها هذه الإشارات الخاطفة جاء الإسلام في هذه السورة - ليعلنها ناصعة واضحة صريحة حاسمة :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) .
فكانت مفرق الطريق في التصور والاعتقاد . . كذلك كانت مفرق الطريق في الحياة والسلوك . .
إن الذي يمتلىء شعوره بوجود الله الواحد الذي لا إله إلا هو . الحي الواحد الذي لا حي غيره . القيوم الواحد الذي به تقوم كل حياة أخرى وكل وجود ، كما أنه هو الذي يقوم على كل حي وكل موجود . .
إن الذي يمتلىء شعوره بوجود الله الواحد الذي هذه صفته ، لا بد أن يختلف منهج حياته ونظامها من الأساس عن الذي تغيم في حسه تلك التصورات التائهة المهوشة . فلا يجد في ضميره أثرا لحقيقة الألوهية الفاعلة المتصرفة في حياته !
إنه مع التوحيد الواضح الخالص لا مكان لعبودية إلا لله . ولا مكان للاستمداد والتلقي إلا من الله . لا في شريعة أو نظام ، ولا في أدب أو خلق . ولا في اقتصاد أو اجتماع . ولا مكان كذلك للتوجه لغير الله في شأن من شؤون الحياة ، وما بعد الحياة . . أما في تلك التصورات الزائغة المنحرفة المهزوزة الغامضة فلا متجه ولا قرار ، ولا حدود لحرام أو حلال ، ولا لخطأ أو صواب : في شرع أو نظام ، في أدب أو خلق ، وفي معاملة أو سلوك . . فكلها . . كلها . . إنما تتحدد وتتضح عندما تتحدد الجهة التي منها التلقي ، وإليها التوجه ، ولها الطاعة والعبودية والاستسلام .
ومن ثم كانت هذه المواجهة بذلك الحسم في مفرق الطريق :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . .
ومن ثم كان التميز والتفرد لطبيعة الحياة الإسلامية - لا لطبيعة الاعتقاد وحده - فالحياة الإسلامية بكل مقوماتها إنما تنبثق انبثاقا من حقيقة هذا التصور الإسلامي عن التوحيد الخالص الجازم . التوحيد الذي لا يستقيم عقيدة في الضمير ما لم تتبعه آثاره العملية في الحياة . من تلقي الشريعة والتوحيد من الله في كل شأن من شؤون الحياة . والتوجه كذلك إلى الله في كل نشاط وكل اتجاه .
{ الَمَ * اللّهُ لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ }
قال أبو جعفر : قد أتينا على البيان عن معنى قوله : { الم } فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وكذلك البيان عن قوله { اللّهُ } . وأما معنى قوله : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ } فإنه خبر من الله جلّ وعزّ أخبر عباده أن الألوهية خاصة به دون ما سواه من الاَلهة والأنداد ، وأن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية ، وتوحده بالألوهية ، وأن كل ما دونه فملكه ، وأن كل ما سواه فخلقه ، لا شريك له في سلطانه وملكه¹ احتجاجا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذ كان كذلك ، فغير جائزة لهم عبادة غيره ، ولا إشراك أحد معه في سلطانه ، إذ كان كل معبود سواه فملكه ، وكل معظم غيره فخلقه ، وعلى المملوك إفراد الطاعة لمالكه ، وصرف خدمته إلى مولاه ورازقه . ومعرفا من كان من خلقه يوم أنزل ذلك إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، بتنزيله ذلك إليه ، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه ، مقيما على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو ملك أو غير ذلك من الأشياء التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته وإلاهته ، ومتخذته دون مالكه وخالقه إلها وربا ، أنه مقيم على ضلالة ، ومنعزل عن المحجة ، وراكب غير السبيل المستقيمة بصرفه العبادة إلى غيره ولا أحد له الألوهية غيره .
وقد ذكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به من نفي الألوهية أن يكون لغيره ووصفُه نفسه بالذي وصفها به ابتدائها احتجاجا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران ، فحاجّوه في عيسى صلوات الله عليه ، وألحدوا في الله ، فأنزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفا وثلاثين آية من أولها ، احتجاجا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فأبوا إلا المقام على ضلالتهم وكفرهم ، فدعاهم إلى المباهلة ، فأبوا ذلك وسألوا قبول الجزية منهم ، فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم ، وانصرفوا إلى بلادهم . غير أن الأمر وإن كان كذلك وإياهم قصد بالحِجاج ، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله ، واتخاذ ما سوى الله ربا وإلها ومعبودا ، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الاَيات فيه ، ومحجوجون في الفرقان الذي فرق به لرسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم .
ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل في الذين وصفنا صفتهم من النصارى :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم وذو رأيهم ، وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح . والسيد ثمالهم ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، واسمه الأيهم . وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، أسقفّهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مِدْرَاسهم . وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم ، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدموه ، وبنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات ، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينه . قال ابن إسحاق قال محمد بن جعفر بن الزبير : قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحِبَرات جُبب وأردية في بلحرث بن كعب . قال : يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم . وقد حانت صلاتهم ، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دَعُوهُمْ » ! فَصَلّوا إلى المَشْرِقِ . قال : وكانت تسمية الأربع عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم : العاقب وهو عبد المسيح ، والسيد وهو الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، وأوس ، والحارث ، وزيد ، وقيس ، ويزيد ، ونبيه ، وخويلد بن عمرو ، وخالد ، وعبد الله ، ويُحَنّس¹ في ستين راكبا . فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، والأيهم السيد ، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يقولون : هو الله ، ويقولون : هوَ ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة ، وكذلك قول النصرانية . فهم يحتجون في قولهم : هو الله ، بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا ، وذلك كله بإذن الله ، ليجعله آية للناس . ويحتجون في قولهم : إنه ولد الله ، أنهم يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من ولد آدم من قبله . ويحتجون في قولهم : إنه ثالث ثلاثة ، بقول الله عز وجل : «فعلنا » و«أمرنا » و«خلقنا » و«قضينا » ، فيقولون : لو كان واحدا ما قال إلا «فعلتُ » و«أمرتُ » و«قضيتُ » و«خلقتُ » ، ولكنه هو وعيسى ومريم . ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن ، وذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم . فلما كلمه الحبران ، قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أسْلِما » ! قالا : قد أسلمنا . قال : «إنّكُمَا لَمْ تُسْلِما ، فأسْلِما » ! قالا : بلى قد أسلمنا قبلك . قال : «كَذَبْتُمَا ، يَمْنَعُكُما مِنَ الإسْلامِ دُعاؤُكُما لِلّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَدا ، وَعِبادَتُكُما الصّلِيبَ ، وأكْلُكُما الخِنْزِيرَ » . قالا : فمن أبوه يا محمد ، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ، فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم كله ، صَدْرَ سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ، فقال : { اللّهُ لا إلَه إلاّ هُوَ الحَيّ القَيّومُ } فافتتح السورة بتبرئة نفسه تبارك وتعالى مما قالوا ، وتوحيده إياها بالخلق والأمر ، لا شريك له فيه ، وردّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر ، وجعلوا معه من الأنداد ، واحتجاجا عليهم بقولهم في صاحبهم ، ليعرفهم بذلك ضلالتهم ، فقال : { اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ } أي ليس معه شريك في أمره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { الم اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ الحَيّ القَيّومُ } قال : إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخاصموه في عيسى ابن مريم ، وقالوا له : من أبوه ؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان ، لا إله إلا هو ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا . فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّهُ لاَ يَكُونُ وَلَدٌ إلاّ وهُوَ يُشْبِهُ أباهُ ؟ » قالوا : بلى . قال : «ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ رَبّنَا حَيّ لاَ يَمُوتُ ، وأنّ عِيسَى يَأتِي عَلَيْهِ الفَنَاءُ ؟ » . قالوا : بلى . قال : «ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ رَبّنا قَيّمٌ عَلى كُلّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ ؟ » . قال : بلى . قال : «فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئا ؟ » . قالوا : لا . قال : «أفَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السّمَاءِ ؟ » . قالوا : بلى . قال : «فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئا إلاّ ما عُلّمَ ؟ » قالوا : لا . قال : «فإنّ رَبّنَا صَوّرَ عِيسَى فِي الرّحِمِ كَيْفَ شاءَ ، فَهَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ ؟ » . قالوا : بلى . قال : «ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ رَبّنَا لاَ يَأْكُلُ الطّعامَ ولا يَشْرَبُ الشّرابَ ولا يُحْدِثُ الحَدث ؟ » . قالوا : بلى . قال : «ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ عِيسى حَمَلَتْهُ امْرأةٌ كَما تَحْمِلُ المَرأةُ ، ثُمّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ المَرأةُ وَلَدها ، ثُمّ غُدّيَ كَما يُغَذّى الصّبِيّ ، ثُمّ كانَ يَطْعَمُ الطّعَامَ وَيَشْرَبُ الشّراب ويُحْدِثُ الحَدث ؟ » . قالوا : بلى . قال : «فَكَيْفَ يَكونُ هَذَا كمَا زعَمْتُمْ ؟ » . قال : فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا ، فأنزل الله عز وجل : { الم اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ الحَيّ القَيّومُ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { الحَيّ القَيّومُ } .
اختلفت القراء في ذلك ، فقرأته قراء الأمصار : { الحَيّ القَيّومُ } . وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما : «الحَيّ القَيّامُ » . وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ : «الحَيّ القَيّم » .
حدثنا بذلك أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، قال : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، قال : سمعت علقمة يقرأ : «الحَيّ القَيّمُ » قلت : أنت سمعته ؟ قال : لا أدري .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن علقمة ، مثله .
وقد روي عن علقمة خلاف ذلك ، وهو ما :
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا شيبان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن علقمة أنه قرأ : «الحَيّ القَيّام » .
والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك ، ما جاءت به قراءة المسلمين نقلاً مستفيضا عن غير تشاعُر ولا تواطؤ وراثةً ، وما كان مثبتا في مصاحفهم ، وذلك قراءة من قرأ { الحَيّ القَيّوم } .
القول في تأويل قوله تعالى : { الحَيّ } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : { الحَيّ } فقال بعضهم : معنى ذلك من الله تعالى ذكره : أنه وصف نفسه بالبقاء ، ونفى الموت الذي يجوز على من سواه من خلقه عنها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { الحَيّ } الذي لا يموت ، وقد مات عيسى وصلب في قولهم ، يعني في قول الأحبار الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى أهل نجران .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { الحَيّ } قال : يقول : حي لا يموت .
وقال آخرون : معنى { الحَيّ } الذي عناه الله عز وجلّ في هذه الاَية ووصف به نفسه ، أنه المتيسر له تدبير كل ما أراد وشاء ، لا يمتنع عليه شيء أراده ، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الاَلهة والأنداد .
وقال آخرون : معنى ذلك : أن له الحياة الدائمة التي لم تزل له صفة ، ولا تزال كذلك . وقالوا : إنما وصف نفسه بالحياة ، لأن له حياة كما وصفها بالعلم لأن لها علما ، وبالقدرة لأن لها قدرة .
ومعنى ذلك عندي : ( أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناء لها ولا انقطاع ، ونفى عنها ما هو حال يكل ذي حياة من خلقه ، من الفناء ، وانقطاع الحياة عند مجيء أجله ، فأخبر عباده أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة ، والحيّ الذي لا يموت ، ولا يبيد كما يموت كل من اتخذ من دونه ربا ، ويبيد كلّ من ادّعى من دونه إلها ، واحتجّ على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى ، فلا يكون إلها يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت ، وأن الإله : هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى ، وذلك الله الذي لا إله إلا هو .
القول في تأويل قوله تعالى : { القَيّوم } . قد ذكرنا اختلاف القراءة في ذلك والذي نختار منه ، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك .
فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أن القراء قرأت بها فمتقارب ، ومعنى ذلك كله : القيم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحب من تغيير وتبديل وزيادة ونقص . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : { الحَيّ القَيّومُ } قال : القائم على كل شيء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { القَيّوم } قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه .
وقال آخرون : معنى ذلك القيام على مكانه ، ووجهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوال معه ولا انتقال ، وأن الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوصفها بذلك التغير والتنقل من مكان إلى مكان وحدوث التبدل الذي يحدث في الاَدميين وسائر خلقه غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن عمر بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { القَيّوم } القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول ، وقد زال عيسى في قولهم يعني في قول الأحبار الذين حاجوا النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل نجران في عيسى عن مكانه الذي كان به وذهب عنه إلى غيره .
وأولى التأويلين بالصواب ، ما قاله مجاهد والربيع ، وأن ذلك وصف من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء في رزقه والدفع عنه ، وكلاءته وتدبيره وصرفه في قدرته ، من قول العرب : فلان قائم بأمر هذه البلدة ، يُعنى بذلك : المتولي تدبير أمرها . فالقيّوم إذ كان ذلك معناه «الفَيعول » من قول القائل : الله يقول بأمر خلقه ، وأصله القيووم ، غير أن الواو الأولى من القيوم لما سبقتها ياء ساكنة وهي متحركة قلبت ياء ، فجعلت هي والياء التي قبلها ياء مشددة ، لأن العرب كذلك تفعل بالواو المتحركة إذا تقدمتها ياء ساكنة . وأما القيّام ، فإن أصله القيوام ، وهو الفَيْعال ، من قام يقوم ، سبقت الواو المتحركة من قيوام ياء ساكنة ، فجعلتا جميعا ياء مشددة . ولو أن القيّوم فعّول ، كان القوّوم ، ولكنه الفيعول ، وكذلك القيّام لو كان الفَعّال لكان القوّام ، كما قيل : الصوّام والقوام ، وكما قال جل ثناؤه : { كُونُوا قَوّامِين لِلّهِ شُهَداء بالقِسْطِ } ، ولكنه الفَيْعال فقال : القيّام . وأما القيّم فهو الفَيْعِل من قام يقوم ، سبقت الواو المتحركة ياء ساكنة فجعلتا ياء مشددة ، كما قيل : فلان سيد قومه ، من ساد يسود ، وهذا طعام جيد من جاد يجود ، وما أشبه ذلك . وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ لأنه قصد به قصد المبالغة في المدح ، فكان القيّوم والقيّام والقيّم أبلغ في المدح من القائم . وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته إن شاء الله «القيّام » ، لأن ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من الياء والواو ، فيقولون للرجل الصوّاغ : الصيّاغ ، ويقولون للرجل الكثير الدوران الديّار . وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه : { لا تَذرْ على الأرْضِ من الكافرِين ديّارا } إنما هو «دوّارا » «فعّالاً » من دار يدور ، ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز ، وأقرّت كذلك في المصحف .
ابتُدِىء الكلام بمسند إليه خَبرُه فِعْلِيُّ : لإفادة تقوية الخبر اهتماماً به .
وجيء بالاسم العلَم : لتربية المهابة عند سماعه ، ثم أردف بجملة { لا إله إلاّ هو } ، جملةً معترضة أو حاليةً ، ردّاً على المشركين ، وعلى النصارى خاصة . وأتبع بالوصفين { الحيّ القيوم } لنفي اللبس عن مسمَّى هذا الاسم ، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلاهية ، وأنّ غيره لا يستأهلها ؛ لأنّه غير حيّ أوْ غير قَيُّوم ، فالأصنام لا حياة لها ، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت ، فما هو الآن بقيوُّم ولا هو في حال حياته بقيّوم على تدبير العالم ، وكيف وقد أوذِيَ في الله ، وكُذّب ، واختفّى من أعدائه . وقد مضى القول في معنى { الحيّ القيّوم } في تفسير آية الكرسي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، الحي: الذي لا يموت. {القيوم}: القائم على كل نفس بما كسبت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لا إلَهَ إلاّ هُوَ}: خبر من الله جلّ وعزّ أخبر عباده أن الألوهية خاصة به دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وأن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية، وتوحده بالألوهية، وأن كل ما دونه فملكه، وأن كل ما سواه فخلقه، لا شريك له في سلطانه وملكه، احتجاجا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذ كان كذلك، فغير جائزة لهم عبادة غيره، ولا إشراك أحد معه في سلطانه، إذ كان كل معبود سواه فملكه، وكل معظم غيره فخلقه، وعلى المملوك إفراد الطاعة لمالكه، وصرف خدمته إلى مولاه ورازقه. ومعرفا من كان من خلقه يوم أنزل ذلك إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بتنزيله ذلك إليه، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه، مقيما على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو ملك أو غير ذلك من الأشياء التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته وإلاهته، ومتخذته دون مالكه وخالقه إلها وربا، أنه مقيم على ضلالة، ومنعزل عن المحجة، وراكب غير السبيل المستقيمة بصرفه العبادة إلى غيره ولا أحد له الألوهية غيره.
وقد ذكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به من نفي الألوهية أن يكون لغيره ووصفُه نفسه بالذي وصفها به ابتدائها احتجاجا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران، فحاجّوه في عيسى صلوات الله عليه، وألحدوا في الله، فأنزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفا وثلاثين آية من أولها، احتجاجا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا المقام على ضلالتهم وكفرهم، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك وسألوا قبول الجزية منهم، فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم، وانصرفوا إلى بلادهم. غير أن الأمر وإن كان كذلك وإياهم قصد بالحِجاج، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله، واتخاذ ما سوى الله ربا وإلها ومعبودا، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الآيات فيه، ومحجوجون في الفرقان الذي فرق به لرسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم.
{الحَيّ}: اختلف أهل التأويل في معنى قوله: {الحَيّ}؛ فقال بعضهم: معنى ذلك من الله تعالى ذكره: أنه وصف نفسه بالبقاء، ونفى الموت الذي يجوز على من سواه من خلقه عنها. وقال آخرون: معنى {الحَيّ} الذي عناه الله عز وجلّ في هذه الآية ووصف به نفسه، أنه المتيسر له تدبير كل ما أراد وشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد.
وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الحياة الدائمة التي لم تزل له صفة، ولا تزال كذلك. وقالوا: إنما وصف نفسه بالحياة لأن له حياة، كما وصفها بالعلم لأن لها علما، وبالقدرة لأن لها قدرة.
ومعنى ذلك عندي: أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناء لها ولا انقطاع، ونفى عنها ما هو حال بكل ذي حياة من خلقه، من الفناء، وانقطاع الحياة عند مجيء أجله، فأخبر عباده أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة، والحيّ الذي لا يموت، ولا يبيد كما يموت كل من اتخذ من دونه ربا، ويبيد كلّ من ادّعى من دونه إلها، واحتجّ على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى، فلا يكون إلها يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت، وأن الإله: هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى، وذلك الله الذي لا إله إلا هو.
{القَيّوم}: القيم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحب من تغيير وتبديل وزيادة ونقص... القائم على كل شيء، يكلؤه ويحفظه ويرزقه.
وقال آخرون: معنى ذلك القيام على مكانه، ووجهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوال معه ولا انتقال، وأن الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوصفها بذلك التغير والتنقل من مكان إلى مكان وحدوث التبدل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم.
وأولى التأويلين بالصواب، أن ذلك وصف من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء في رزقه والدفع عنه، وكلاءته وتدبيره وصرفه في قدرته، من قول العرب: فلان قائم بأمر هذه البلدة، يُعنى بذلك: المتولي تدبير أمرها. فالقيّوم إذ كان ذلك معناه «الفَيعول» من قول القائل: الله يقوم بأمر خلقه...وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ لأنه قصد به قصد المبالغة في المدح، فكان القيّوم والقيّام والقيّم أبلغ في المدح من القائم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {الحي القيوم} هو الحي بذاته، وكل حي سواه حي بحياة هي حياة غيره. فإذا كان هو حيا بذاته لم يوصف بالتغاير والزوال، ولما كان كل حي سواه حيا بغيره احتمل التغاير والزوال، وكانت الحياة عبارة يوصف بها من عظم شأنه، وشرف أمره عند الخلق. ألا ترى أن الله تعالى وصف الأرض بالحياة عند إنباتها لما يعظم قدرها، وتشرف منزلتها عند الخلق عند النبات، وكذلك المؤمن حي لعلو قدره عند الناس، والكافر ميت لدون منزلته عند الناس، فكذلك سبحانه سمى نفسه حيا لعظمته وجلاله وكبريائه. وعلى هذا يخرج قوله في الشهداء حيث قال: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء} [البقرة: 154] أي مكرمون معظمون مشرفون عند ربهم. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إن اسم الله الأعظم {الحي القيوم}...
اعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب، وذلك لأن أولئك النصارى الذين نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل لهم: إما أن تنازعوه في معرفة الإله، أو في النبوة، فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولدا وأن محمدا لا يثبت له ولدا فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم، والحي القيوم يستحيل عقلا أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوة، فهذا أيضا باطل، لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا، فكيف يمكن منازعته في صحة النبوة، فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جدا..
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار بألوهيته، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد إلا لوجهه، فكل معبود سواه فهو باطل، والله هو الإله الحق المتصف بصفات الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية، فالحي من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات التي لا تتم ولا تكمل الحياة إلا بها كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء والدوام والعز الذي لا يرام. {القيوم} الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بغيره فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد والإمداد، فهو الذي قام بتدبير الخلائق وتصريفهم، تدبير للأجسام وللقلوب والأرواح...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا تبدأ السورة في مواجهة أهل الكتاب المنكرين لرسالة النبي [ص] وهم بحكم معرفتهم بالنبوات والرسالات والكتب المنزلة والوحي من الله، كانوا أولى الناس بأن يكونوا أول المصدقين المسلمين، لو أن الأمر أمر اقتناع بحجة ودليل. هكذا تبدأ السورة في مواجهتهم بهذا الشوط القاطع الفاصل في أكبر الشبهات التي تحيك في صدورهم، أو التي يتعمدون نثرها في صدور المسلمين تعمدا. والكاشف لمداخل هذه الشبهات في القلوب ومساربها، والمحدد لموقف المؤمنين الحقيقيين من آيات الله وموقف أهل الزيغ والانحراف، والمصور لحال المؤمنين من ربهم والتجائهم إليه، وتضرعهم له، ومعرفتهم بصفاته تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).. وهذا التوحيد الخالص الناصع هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد، سواء منها عقائد الملحدين والمشركين، وعقائد أهل الكتاب المنحرفين؛ يهودا أو نصارى، على اختلاف مللهم ونحلهم جميعا. كما أنه هو مفرق الطريق بين حياة المسلم وحياة سائر أهل العقائد في الأرض؛ فالعقيدة هنا تحدد منهج الحياة ونظامها تحديدا كاملا دقيقا. (الله لا إله إلا هو).. فلا شريك له في الألوهية.. (الحي).. الذي يتصف بحقيقة الحياة الذاتية المطلقة من كل قيد فلا شبيه له في صفته.. (القيوم).. الذي به تقوم كل حياة وبه يقوم كل وجود، والذي يقوم كذلك على كل حياة وعلى كل وجود، فلا قيام لحياة في هذا الكون ولا وجود إلا به سبحانه. وهذا مفرق الطريق في التصور والاعتقاد، ومفرق الطريق في الحياة والسلوك. مفرق الطريق في التصور والاعتقاد، بين تفرد الله -سبحانه- بصفة الألوهية، وذلك الركام من التصورات الجاهلية؛ سواء في ذلك تصورات المشركين -وقتها في الجزيرة- وتصورات اليهود والنصارى -وبخاصة تصورات النصارى. ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم كانوا يقولون: عزير ابن الله. كما أن الانحراف الذي سجله ما يعتبره اليهود اليوم "الكتاب المقدس "يتضمن شيئا كهذا. كما جاء في سفر التكوين، الإصحاح السادس. فأما انحرافات التصورات المسيحية، فقد حكى القرآن منها قولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وقولهم: إن الله هو المسيح بن مريم. واتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله. واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله...
فأمام هذا الركام من التصورات الفاسدة والمنحرفة التي أشرنا إليها هذه الإشارات الخاطفة جاء الإسلام في هذه السورة- ليعلنها ناصعة واضحة صريحة حاسمة: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). فكانت مفرق الطريق في التصور والاعتقاد.. كذلك كانت مفرق الطريق في الحياة والسلوك.. إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي لا إله إلا هو. الحي الواحد الذي لا حي غيره. القيوم الواحد الذي به تقوم كل حياة أخرى وكل وجود، كما أنه هو الذي يقوم على كل حي وكل موجود.. إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي هذه صفته، لا بد أن يختلف منهج حياته ونظامها من الأساس عن الذي تغيم في حسه تلك التصورات التائهة المهوشة. فلا يجد في ضميره أثرا لحقيقة الألوهية الفاعلة المتصرفة في حياته! إنه مع التوحيد الواضح الخالص لا مكان لعبودية إلا لله. ولا مكان للاستمداد والتلقي إلا من الله. لا في شريعة أو نظام، ولا في أدب أو خلق. ولا في اقتصاد أو اجتماع. ولا مكان كذلك للتوجه لغير الله في شأن من شؤون الحياة، وما بعد الحياة.. أما في تلك التصورات الزائغة المنحرفة المهزوزة الغامضة فلا متجه ولا قرار، ولا حدود لحرام أو حلال، ولا لخطأ أو صواب: في شرع أو نظام، في أدب أو خلق، وفي معاملة أو سلوك.. فكلها.. كلها.. إنما تتحدد وتتضح عندما تتحدد الجهة التي منها التلقي، وإليها التوجه، ولها الطاعة والعبودية والاستسلام. ومن ثم كانت هذه المواجهة بذلك الحسم في مفرق الطريق: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).. ومن ثم كان التميز والتفرد لطبيعة الحياة الإسلامية -لا لطبيعة الاعتقاد وحده- فالحياة الإسلامية بكل مقوماتها إنما تنبثق انبثاقا من حقيقة هذا التصور الإسلامي عن التوحيد الخالص الجازم. التوحيد الذي لا يستقيم عقيدة في الضمير ما لم تتبعه آثاره العملية في الحياة. من تلقي الشريعة والتوحيد من الله في كل شأن من شؤون الحياة. والتوجه كذلك إلى الله في كل نشاط وكل اتجاه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ابتدئ الكلام بمسند إليه خَبرُه فِعْلِيّ، لإفادة تقوية الخبر اهتماماً به.
وجيء بالاسم العلَم، لتربية المهابة عند سماعه، ثم أردف بجملة {لا إله إلاّ هو}، جملةً معترضة أو حاليةً، ردّاً على المشركين، وعلى النصارى خاصة، وأتبع بالوصفين {الحيّ القيوم} لنفي اللبس عن مسمَّى هذا الاسم، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلاهية، وأنّ غيره لا يستأهلها؛ لأنّه غير حيّ أوْ غير قَيُّوم؛ فالأصنام لا حياة لها، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت، فما هو الآن بقيوُّم ولا هو في حال حياته بقيّوم على تدبير العالم، وكيف وقد أوذِيَ في الله، وكُذّب، واختفى من أعدائه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{الله لا إله إلا هو الحث القيوم}، هذه الجملة السامية تبين أصل التوحيد، و تقرر معناه، فابتدأت بلفظ الجلالة الذي يدل على كمال الألوهية، و انفراده – سبحانه – بحق العبودية، إذ إنه الإله وحده الذي أنشأ الخلق و رباه و نماه، و لا مالك لهذا الوجود و من فيه و ما فيه سواه. و لفظ "الله "علم على الذات العلية المتصف بكل كمال و النزهة عن كل نقص، و التي لا تشابه الحوادث، و لا يشبهها شيء من الحوادث: {ليس كمثله شيء و هو السميع البصير 11} (الشورى). ثم صرح سبحانه و تعالى بما يتضمنه لفظ الجلالة، وهو الانفراد بالألوهية، وحق العبودية، فقال سبحانه: {لا إله إلا هو} أي لا معبود بحق إلا هو، أو لا إله في الحقيقة والواقع إلا هو، وكل ما يدعى له الألوهية من شخص أو وثن فهو ليس إلا أسماء سماهم بها المشركون الضالون، وليس من حقيقة الألوهية في شيء {إن هي إلا أسناء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان... 23} (النجم). ثم بين سبحانه الوصاف التي تبين استحقاقه وحده لحق العبودية، فقال سبحانه: {الحي القيوم} أي الدائم الحياة الذي لا ينفى، و ينفي ما سواه، و لا يستمد حي حياته إلا بإرادته سبحانه، و هو القائم بنفسه، و القائم على كل شيء، و المدبر لكل شيء، فهذا معنى القيوم...
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} تلك هي قضية القمة، ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}. و {اللَّهُ} كما يقولون مبتدأ، و {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} خبر، والمبتدأ لابد أن يكون متضحاً في الذهن، فكأن كلمة {اللَّهُ} متضحة في الذهن، ولكنه يريد أن يعطي لفظ {اللَّهُ} الوصف الذي يليق به وهو {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}، ولذلك يقول الحق: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]. إذن فالله متضح في أذهانهم، ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا الإيضاح، فجاء القرآن ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فهذه قضية أطلقها الحق شهادة منه لنفسه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18]...
وكفى بالله شهيداً، لأنها شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد فلم يروا أحداً آخر إلا هو، وكذلك، شهد أولو العلم الذين يأخذون من الأدلة في الكون ما يثبت صدق الملائكة ويؤكد صدق الله، فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول: إن الحق أطلقها على نفسه وقال: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}، وجعلها كلمة التوحيد وجعل الأمر في غاية اليسر والسهولة والبساطة، فلم يشأ الله أن يجعل دليل الإيمان بالقوة العليا دليلاً معقداً، أو دليلاً فلسفياً، أو لا يستطيع أحد أن يصل إليه إلا أهل الثقافة العالية؟ لا، إن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف، إنه مطلوب للذي يكنس في الشارع، كما هو مطلوب من الأستاذ الجامعي...