لفظ " عم " مركب من كلمتين ، هما حرف الجر " عن " و " ما " التى هى اسم استفهام ، فأصل هذا اللفظ : " عن ما " فأدغمت النون فى الميم لأن الميم تشاركها فى الغنة وحذف الألف ليتميز الخبر عن الاستفهام . والجار والمجرور متعلق بفعل " يتساءلون " .
والتساؤل : تفاعل من السؤال ، بمعنى أن يسأل بعض الناس بعضا عن أمر معين ، على سبيل معرفة وجه الحق فيه ، أو على سبيل التهكم .
والنبأ : الخبر مطلقا ، ويرى بعضهم أنه الخبر ذو الفائدة العظيمة .
والمعنى : عن أى شئ يتساءل هؤلاء المشركون ؟ وعن أى أمر يسأل بعضهم بعضا ؟ إنهم يتساءلون عن النبأ العظيم ، والخبر الهام الذى جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والذى نطق به القرآن الكريم ، من أن البعث حق ، ومن أن هذا القرآن الكريم من عند الله - تعالى - ومن أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه .
وافتتح - سبحانه - الكلام بأسلوب الاستفهام ، لتشويق السامع إلى المستفهم عنه ، ولتهويل أمره ، وتعظيم شأنه .
والضمير فى قوله { يتساءلون } يعود إلى المشركون ، الذين كانوا يكثرون من التساؤل فيما بينهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، عما جاء به من عند ربه ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الحسن قال : لما بعث النبى صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون فيما بينهم - عن أمره وعما جاءهم به - فنزل قوله - تعالى - : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ . عَنِ النبإ العظيم . . } .
وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأنهم معرفون من السياق ، إذ هم - دون غيرهم - الذين كانوا يتساءلون فيما بينهم - على سبيل التهكم - عما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .
وقوله - تعالى - : { عَنِ النبإ العظيم } تهويل لشأن هذا الأمر الذى يتساءلون فيما بينهم عنه ، ووصف - سبحانه - النبأ بالعظم ، زيادة فى هذا التهويل والتفخيم من شأنه ، لكى تتوجه إليه أذهانهم ، وتلتفت إليهم أفهامهم .
فكأنه - سبحانه - يقول : عن أى شئ يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضا ؟ أتريدون أن تعرفوا ذلك على سبيل الحقيقة ؟ ما بين منكر له إنكارا تاما ، كما حكى - سبحانه - عنهم فى قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } وما بين مترد فى شأنه ، كما حكى - سبحانه - عن بعضهم فى قوله : { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } قال صاحب الكشاف قوله : { عم } أصله عما ، على أنه حرف جر ، دخل على ما الاستفهامية .
ومعنى هذا الاستفهام : تفخيم الشأن ، كأنه قال : عن أى شئ يتساءلون . ونحوه ما فى قولك : زيد ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه ، وعدم نظيره ، كأنه شئ خفى عليك جنسه . فأنت تسأل عن جنسه ، وتفحص عن جوهره ، كما تقول : ما الغول وما العنقاء . . ؟
و { يَتَسَآءَلُونَ } يسأل بعضهم بعضا . . والضمير لأهل مكة ، فقد كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث .
وقوله : { عَنِ النبإ العظيم } بيان للشأن المفخم .
فإن قلت : قد زعمت أن الضمير فى { يَتَسَآءَلُونَ } للكفار ، فما تصنع بقوله : { الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } ؟ قلت : كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث ، ومنهم من يشك .
وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين جميعا ، وكانوا جميعا يسألون عنه ، أما المسلم فليزداد خشية واستعدادا ، وأما الكافر فليزداد استهزاء . .
قول تعالى ذكره : عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء المشركون بالله ورسوله من قريش يا محمد ؟ وقيل ذلك له صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن قريشا جعلت فيما ذُكر عنها تختصم وتتجادل ، في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوّته ، والتصديق بما جاء به من عند الله ، والإيمان بالبعث ، فقال الله لنبيه : فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون ؟ و «في » و «عن » في هذا الموضع بمعنى واحد . ذكر من قال ما ذكرت :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن مِسعر ، عن محمد بن جحادة ، عن الحسن ، قال : لما بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم ، فأنزل الله : عَمّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النّبَأ العَظِيم يعني : الخبر الْعظيم .
قال أبو جعفر : ثم أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الذي يتساءلونه ، فقال : يتساءلون عن النبأ العظيم : يعني : عن الخبر العظيم .
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالنبأ العظيم ، فقال بعضهم : أريد به القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : عَن النّبَأ الْعَظِيمِ قال : القرآن .
وقال آخرون : عُنِي به البعث . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ وهو البعث بعد الموت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سعيد ، عن قتادة عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ قال : النبأ العظيم : البعث بعد الموت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : عَمّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ قال : يوم القيامة قال : قالوا هذا اليوم الذي تزعمون أنا نحيا فيه وآباؤنا ، قال : فهم فيه مختلفون ، لا يؤمنون به ، فقال الله : بل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ، يوم القيامة لا يؤمنون به .
وكان بعض أهل العربية يقول : معنى ذلك : عمّ يتحدّث به قريش في القرآن ، ثم أجاب فصارت عمّ كأنها في معنى : لأيّ شيء يتساءلون عن القرآن ، ثم أخبر فقال : الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ بين مصدق ومكذّب ، فذلك إخلافهم ، وقوله : الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يقول تعالى ذكره : الذي صاروا هم فيه مختلفون فريقين : فريق به مصدّق ، وفريق به مكذّب . يقول تعالى ذكره : فتساؤلهم بينهم في النبأ الذي هذه صفته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة عن النبأ الّذِي همْ فِيهِ مُخْتَلِفونَ البعث بعد الموت ، فصار الناس فيه فريقين : مصدّق ومكذّب ، فأما الموت فقد أقرّوا به لمعاينتهم إياه ، واختلفوا في البعث بعد الموت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ : صار الناس فيه رجلين : مصدّق ، ومكذّب ، فأما الموت فإنهم أقروا به كلهم ، لمعاينتهم إياه ، واختلفوا في البعث بعد الموت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ قال : مصدّق ومكذّب .
ولما كان الاستفهام مستعملاً في غير طلب الفهم حَسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله : { عن النبإ العظيم } فجوابه مستعملة بياناً لما أريد بالاستفهام من الإِجمال لقصد التفخيم فبُيِّن جانب التفخيم ونظيره قوله تعالى : { هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين تَنَزَّلَ على كل أفّاك أثيم } [ الشعراء : 221 ، 222 ] ، فكأنه قيل : هم يتساءلون عن النبأ العظيم ومنه قول حسان بن ثابت :
لمن الدار أقفرت بمعــان *** بين أعلى اليرموك والصُّمّان
ذاك مَغنى لآل جَفْنةَ في الده *** ر وحَـــقٌّ تقلُّب الأزمان
والنَّبَأ : الخَبَر ، قيل : مطلقاً فيكون مرادفاً للَفْظِ الخبر ، وهو الذي جرى عليه إطلاق « القاموس » و« الصحاح » و« اللسان » .
وقال الراغب : « النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقاً » ا ه . وهذا فرق حسن ولا أحسب البلغاء جَروا إلاّ على نحو ما قال الراغب فلا يقال للخبر عن الأمور المعتادة : نبأ وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء ، وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعَوا ما يقع في بعض كلام الناس من تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر لضرب من التأويل أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد ، فكثر ذلك في الكلام كثرة عسر معها تحديد مواقع الكلمتين ولكنْ أبلغُ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدق مواقع الاستعمال . وتقدم عند قوله تعالى : { ولقد جاءك من نبإِىْ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ) وقوله : { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } [ ص : 67 ، 68 ] .
والعظيم حقيقته : كبير الجسم ويستعار للأمر المهم لأن أهمية المعنى تتخيّل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدركها كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين وشاعَت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة .
ووصف { النبأ } ب { العظيم } هنا زيادة في التنويه به لأن كونه وارداً من عالِم الغيب زاده عظمَ أوصاف وأهوال ، فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وُصف فيه من أحوال البعث في ما نزل من آيات القرآن قبلَ هذا . ونظيره قوله تعالى : { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } في سورة ص ( 67 ، 68 ) .
والتعريف في { النبأ } تعريف الجنس فيشمل كل نبأ عظيم أنبأهم الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وأول ذلك إنباؤه بأن القرآن كلام الله ، وما تضمنه القرآن من إبطال الشرك ، ومن إثبات بعث الناس يوم القيامة ، فما يروى عن بعض السلف من تعيين نبأ خاص يُحمل على التمثيل . فعن ابن عباس : هو القرآن ، وعن مجاهد وقتادة : هو البعث يوم القيامة .
وسَوق الاستدلال بقوله : { ألم نجعل الأرض مهاداً } إلى قوله : { وجنات ألفافاً } [ النبأ : 16 ] يدل دلالة بينة على أن المراد من { النبأ العظيم } الإنباء بأن الله واحد لا شريك له .