ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أنه هو المالك لكل شىء وأنه هو وحده الذى إليه تصير الأمور فقال : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أى له - سبحانه - وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيباً .
{ وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } أى إلى حكمه وقضائه تعود أمور الناس وشئونهم فيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى ، لأنه - سبحانه - منه المبدأ وإليه المآب فيجازى كل إنسان على حسب اعتقاده وعمله بدون ظلم أو محاباة .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حذرت الناس من أهوال يوم القيامة الذى تبيض فيه وجوه وتسود وجوه وبينت السباب التى أدت إلى فوز من فاز وإلى شقاء من شقى ، ونوهت بشأن الآيات التى أنزلها الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم لتكون هداية للناس وصرحت بأن الله - تعالى - هو الخالق لكل شىء وإليه مرجع الأمور ومصيرها فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب .
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم ، وتسويد الوجوه ، ويثيب أهل الإيمان به ، الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها ، بما وصف أنه مثيبهم به ، من الخلود في جناته ، من غير ظلم منه لأحد الفريقين فيما فعل ، لأنه لا حاجة به إلى الظلم ، وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزّته عزّة بظلمه إياه ، وإلى سلطانه سلطانا ، وإلى ملكه ملكا ، لنقصان في بعض أسبابه ، يتمم بما ظلم غيره فيه ما كان ناقصا من أسبابه عن التمام ، فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب ، وما في الدنيا والاَخرة ، فلا معنى لظلمه أحدا فيجوز أن يظلم شيئا ، لأنه ليس من أسبابه شيء ناقص يحتاج إلى تمام ، فيتمّ ذلك بظلم غيره ، تعالى الله علوّا كبيرا¹ ولذلك قال جلّ ثناؤه عقيب قوله : { وَما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْما للْعالَمِينَ } { ولِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ وإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } .
واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله : { وإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } ظاهرا وقد تقدم اسمه ظاهرا مع قوله : { وَلِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ } فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة : ذلك نظير قول العرب : أما زيد فذهب زيد ، وكما قال الشاعر :
لا أرَى الموتَ يسبقُ الموتَ شَيْءٌ *** نَغّصَ المَوْتُ ذا الغنى والفقيرا
فأظهر في موضع الإضمار . وقال بعض نحويي الكوفة : ليس ذلك نظير هذا البيت ، لأن موضع الموت الثاني في البيت موضع كناية ، لأنه كلمة واحدة ، وليس ذلك كذلك في الاَية ، لأن قوله : { وَلِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ } خبر ليس من قوله : { وإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } في شيء ، وذلك أن كل واحدة من القصتين مفارق معناها معنى الأخرى ، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها ، غير محتاجة إلى الأخرى ، وما قال الشاعر : «لا أرى » الموت محتاج إلى تمام الخبر عنه .
وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب ، لأن كتاب الله عزّ وجلّ لا يؤخذ معانيه ، وما فيه من البيان إلى الشواذّ من الكلام والمعاني وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم وجه صحيح موجود .
وأما قوله : { وإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } فإنه يعني تعالى ذكره : إلى الله مصير أمر جميع خلقه الصالح منهم ، والطالح والمحسن والمسيء ، فيجازي كلاّ على قدر استحقاقهم منه الجزاء بغير ظلم منه أحدا منهم .
ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قوماً بعمل يرحمهم من أجله ، وآخرين بعمل يعذبهم عليه ، ذكر تعالى الحجة القاطعة في ملكه جميع المخلوقات ، وأن «الحق » لا يعترض عليه ، وذلك في قوله ، { ولله ما في السموات وما في الأرض } الآية ، وقال : { ما } ولم يقل «من » من حيث هي جمل وأجناس ، وذكر الطبري : أن بعض البصريين نظر قوله تعالى : { وإلى الله } فأظهر الاسم ، ولم يقل إليه بقول الشاعر :
لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ . . . نَغَّصَ الموتُ ذا الغنى والْفَقيرا{[3414]}
وما جرى مجراه ، وقاله الزجّاج ، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى .
قال القاضي أبو محمد : والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم ، وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى ، فلو تكررت جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم ، وليس التعرض بالضمير في ذلك بعرف ، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه هو العرف ، إذ الكلام في معنى واحد ، ولا يجوز إظهار الاسم إلا في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على السامع ، وقرأ بعض السبعة ، «تَرجع الأمور » بفتح التاء على بناء الفعل للفاعل ، وقد تقدم ذكر ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.