التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (109)

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 106 ) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 107 ) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ( 108 ) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 109 ) } [ 106 109 ] .

في الآيات :

1 تذكير بيوم القيامة الذي تبيض فيه وجوه أناس وتسود وجوه آخرين وفقا لأعمال أصحابها .

2 وتقرير ضمني بأن الذين تسود وجوههم هم الذين كفروا بعد إيمانهم ، وبأن الذين تبيض وجوههم هم المؤمنون الثابتون المخلصون ؛ حيث يقرع الأولون على كفرهم بعد الإيمان ويقال لهم : ذوقوا العذاب على كفركم ، وحيث ينال الآخرون رحمة الله مخلدين فيها .

3 وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الآيات التي يوحيها الله إليه قد انطوت على الحق . وبأن الله لا يريد للناس ظلما وبأن له ما في السموات والأرض وإليه ترجع جميع الأمور .

تعليق على الآية

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ . . . } إلخ

والآيات الثلاث التالية لها

لا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية في مناسبة نزول هذه الآيات . والمتبادر أنها استمرار وتعقيب على الآيات السابقة التي انتهت بالإنذار لمن يشذّ عن حبل الله ويضلّ عن هداه بعدما جاءته البينات واضحة .

وواضح أن الآيات احتوت توكيدا لما قرره القرآن في مواضع كثيرة مماثلة من كون ضلال الناس وهداهم وبغيهم واستقامتهم من كسبهم واختيارهم وهم مسؤولون عن أعمالهم ولا يمكن أن يظلمهم الله في ذلك كما لا يمكن أن يريد للناس شرا ولا ضلالا ولا ظلما . ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الآيتين فقد يكون من الحكمة في ذكر ابيضاض الوجوه واسودادها ما اعتاد الناس أن يقولوه في حالة الفوز والفرح والعزّة والنصر والإخفاق والحزن والذلّة والقهر . وقد يكون من مقاصد الآية الترهيب والترغيب والله تعالى أعلم .

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في منّ عنتهم جملة { أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } . منها أنهم المنافقون والكتابيون . أو الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحاربهم أبو بكر . أو الخوارج الذين حاربهم علي . أو أهل الفتن والبدع والأهواء . وروى ابن كثير عن ابن عباس أن الذين تبيض وجوههم أهل السنة والجماعة والذين تسود وجوههم أهل البدع والفرقة .

والأوامر والنواهي التي تضمنتها الآيات السابقة لهذه الآيات موجهة للمسلمين . وهذا ما يجعلنا نستبعد الكتابيين . ونستبعد أن يكون المقصود في الجملة المنافقين أيضا ؛ لأن حالتهم معلومة .

والقرآن قرر أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم ، وأنهم في الدرك الأسفل من النار إذا لم يتوبوا ، كما جاء في آيات النساء [ 88 و 89 و 145 و 146 ] والتوبة [ 56 و 68 و 73 ] وبقية الأقوال تطبيقية من وحي الأحداث بعد النبي صلى الله عليه وسلم . ولم يكن في زمن ابن عباس جماعة مميزة باسم أهل السنة والجماعة مثلا .

ومهما يكن من أمر ، فيصح القول إن الآيتين الأوليين في صدد من يلتزم بما أمر الله به وما نهى عنه في الآيات السابقة ومن يشذ عنها بصورة عامة . ويدخل كل فريق من فرقاء المسلمين ثبت على كتاب الله وسنة رسوله وكل فريق شذّ عنهما في كل ظرف .

ويسوق الخازن في سياق الآيات أحاديث ورد بعضها في الصحاح من ذلك حديث رواه أيضا الشيخان عن سهل بن سعد جاء فيه : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم فأقول : إنهم منّي فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي ){[455]} .

وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر أن رسول الله قال : ( إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرّ الخلق والخليقة ){[456]} . ولفظ أبي داود لهذا الحديث " سيكون في أمتي اختلاف وفرقة . قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه . هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قاتلهم كان أولى بالله منهم . قالوا : يا رسول الله وما سيماهم ؟ قال : التحليق " .

وحديث عن أبي هريرة جاء فيه : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض الدنيا ){[457]} .

ولا تبدو صلة بين هذه الأحاديث والآيات التي تساق في سياقها إلا ما تفيده من شذوذ فئات من المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسلام الصحيح وسوء مصيرهم الأخروي مما يمكن أن يتصل بمدى جملة { أكفرتم بعد إيمانكم } ومما يمكن أن تكون الحكمة النبوية فيها إنذارا وتحذيرا . والله تعالى أعلم .


[455]:التاج، ج 5 ص 344.
[456]:فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن؛ لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج 5، ص 386 ـ 387.
[457]:شيء من هذا النص وارد في حديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. أنظر التاج ج 5 ص 379.