مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (109)

المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بقوله { ولله ما في السماوات وما في الأرض } على كونه خالقا لأعمال العباد ، فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض ، فوجب كونها له بقوله { ولله ما في السماوات وما في الأرض } وإنما يصح قولنا : إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد .

أجاب الجبائي عنه بأن قوله { لله } إضافة ملك لا إضافة فعل ، ألا ترى أنه يقال : هذا البناء لفلان فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله ، وأيضا المقصود من الآية تعظيم الله لنفسه ومدحه لإلهية نفسه ، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح ، وأيضا فقوله { ما في السماوات وما في الأرض } إنما يتناول ما كان مظروفا في السماوات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض .

أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن ، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله تعالى دفعا للتسلسل ، وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية ، وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق الله تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى الله تعالى خلقا وتكوينا بواسطة فعل السبب ، فهذا تمام القول في هذه المناظرة .

المسألة الرابعة : قوله تعالى { ولله ما في السماوات وما في الأرض } زعمت الفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السماوات على ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية ، فقدم السبب على المسبب ، وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية ، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق الله وتكوينه فيكون الجبر لازما أيضا من هذا الوجه .

المسألة الخامسة : قال تعالى : { ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور } فأعاد ذكر الله في أول الآيتين والغرض منه تأكيد التعظيم ، والمقصود أن منه مبدأ المخلوقات وإليه معادهم ، فقوله { ولله ما في السماوات وما في الأرض } إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول وقوله { وإلى الله ترجع الأمور } إشارة إلى أنه هو الآخر ، وذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه وتدبيره بأولهم وآخرهم ، وأن الأسباب منتسبة إليه وأن الحاجات منقطعة عنده .

المسألة السادسة : كلمة { إلى } في قوله { وإلى الله ترجع الأمور } لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة ، بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه .