ثم مدح - سبحانه - ذاته بقوله : { الرحمن عَلَى العرش استوى } أى : الرحمن
- عز وجل - استوى على عرش ملكه استواء يليق بذاته بلا كيف أو تشبيه ، أو تمثيل .
قال الإمام مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وقد ذكر لفظ العرش فى إحدى وعشرين ىية من آيات القرآن الكريم .
قال بعض العلماء : " أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة - ومنهم الأئمة الأربعة - إلى أنه صفة لله - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل ؟ لاستحالة اتصافه - تعالى - بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه - تعلاى - عما لا يليق به : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } وأنه يجب الإيمان بها كما وردت ، وتفويض العلم بحقيقتها إليه - تعالى - .
والذي نزل القرآن من الملأ الأعلى ، وخلق الأرض والسماوات العلى ، هو { الرحمن } فما نزله على عبده ليشقى . وصفة الرحمة هي التي تبرز هنا للإلمام بهذا المعنى . وهو المهيمن على الكون كله . { على العرش استوى } والاستواء على العرش كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء . فأمر الناس إذن إليه وما على الرسول إلا التذكرة لمن يخشى .
وقوله : " الرّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى " يقول تعالى ذكره : الرحمن على عرشه ارتفع وعلا .
وقد بيّنا معنى الاستواء بشواهده فيما مضى وذكرنا اختلاف المختلفين فيه فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وللرفع في الرحمن وجهان : أحدهما بمعنى قوله : تنزيلاً ، فيكون معنى الكلام : نزله من خلق الأرض والسموات ، نزله الرحمن الذي على العرش استوى . والاَخر بقوله : عَلى العَرْشِ اسْتَوَى لأن في قوله استوى ، ذكرا من الرحمن .
وقوله { الرحمنُ } رفع بالابتداء ويصح أن يكون بدلاً من الضمير المستقر في { خلق } . وقوله { استوى } قالت فرقة : هو بمعنى استولى ، وقال أبو المعالي وغيره من المتكلمين : هو بمعنى استواء القهر والغلبة ، وقال سفيان الثوري : فعل فعلاً في العرش سماه استواء وقال الشعبي وجماعة غيره : هذا من متشابه القرآن يؤمن به ولا يعرض لمعناه ، وقال مالك بن أنس لرجال سأله عن هذا الاستواء فقال له مالك : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني ، فأدبر السائل وهو يقول : يا أبا عبد الله لقد سألت عنها أهل العراق وأهل الشام فما وفق احد توفيقك .
قال القاضي أبو محمد : وضعف أبو المعالي قول من قال لا يتكلم في تفسيرها بأن قال إن كل مؤمن يجمع على أن لفظة الاستواء ليست على عرفها في معهود الكلام العربي ، فإذا فعل هذا فقد فسر ضرورة ولا فائدة في تأخره على طلب الوجه والمخرج البين ، بل في ذلك البأس على الناس وإيهام للعوام ، وقد تقدم القول في مسألة الاستواء .
{ الرحمن } يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف لازم الحذف تبعاً للاستعمال في حذف المسند إليه كما سماه السكّاكي . ويجوز أن يكون مبتدأ . واختير وصف { الرحمن } لتعليم النّاس به لأن المشركين أنكروا تسميته تعالى الرحمان : { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان } [ الفرقان : 60 ] . وفي ذكره هنا وكثرة التذكير به في القرآن بعث على إفراده بالعبادة شكراً على إحسانه بالرحمة البالغة .
وجملة { على العرش استوى } حال من { الرحمن } . أو خبر ثان عن المبتدأ المحذوف .
والاستواء : الاستقرار ، قال تعالى : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } [ المؤمنون : 28 ] الآية . وقال : { واستوت على الجوديّ } [ هود : 44 ] .
والعرش : عالم عظيم من العوالم العُليا ، فقيل هو أعلى سماء من السماوات وأعظمها . وقيل غير ذلك ، ويسمى : الكرسي أيضاً على الصحيح ، وقيل : الكرسي غير العرش .
وأيّاً مّا كان فذكر الاستواء عليه زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه بعد قوله : { ممَّن خلقَ الأرضَ والسموات العُلى } .
وأما ذكر الاستواء فتأويله أنه تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش . وقد عَرَف العرب من أولئك ملوكَ الفرس وملوكَ الروم وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة .
وحَسّنَ التعبيرَ بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو ممّا يُستوى عليه في المتعارف ، فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى ، فالآية من المتشابه البيّن تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة : أن ليس كمثله شيء .
وقيل : الاستواء يستعمل بمعنى الاستيلاء . وأنشدوا قول الأخطل :
قد استوى بشر على العراق *** بغير سيف ودممٍ مُهْراق
وهو مولّد . ويحتمل أنه تمثيل كالآية . ولعلّه انتزعه من هذه الآية .
وتقدم القول في هذا عند قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } في سورة [ الأعراف : 54 ] . وإنما أعدنا بعضه هنا لأن هذه الآية هي المشتهرة بين أصحابنا الأشعرية .
وفي تقييد الأبيّ على تفسير ابن عرفة : واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة .
قيل لابن عرفة : عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث السوداء وغيرها ، فذكر النبي دليلٌ على عدم تكفير من يقول بالتجسيم ، فقال : هذا صعب ولكن تجاسرتُ على قوله اقتداء بالشيخ عز الدين لأنه سبقني لذلك .
وأتبع ما دلّ على عظمة سلطانه تعالى بما يزيده تقريراً وهو جملة : { له ما في السمَّوات } الخ . فهي بيان لجملة { الرحمان على العرش استوى } . والجملتان تدلان على عظيم قدرته لأن ذلك هو المقصود من سعة السلطان .