تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ} (5)

الآية 5 : وقوله تعالى : { الرحمان على العرش استوى } قال الشيخ ، رحمه الله ، القول بالكون على العرش ، وهو موضع بمعنى كونه بذاته أو في كل الأمكنة ، لا يعدو من إحاطة ذلك به ، أو الاستواء أو مجاوزته عنه أو إحاطته .

فإن كان [ على الوجه ]{[12164]} الأول : فهو إذن محدود محاط به منقوص عن الخلق ، إذ هو دونه . ولو جاز الوصف له بذاته بما تحيط به الأمكنة [ لجاز بما ] {[12165]} تحيط به الأوقات ، فيصير متناهيا بذاته مقصرا عن خلقه .

وإن كان على الوجه الثاني : فلو زيد في الخلق لا ينقص أيضا ، وفي ما في الأول .

ولو كان على الوجه الثالث فهو الأمر المكروه الدال على الحاجة وعلى التقصير من أن ينشئ ما لا يفضل عنه مع ما يذم ذا من فعل الملوك ، أو يفضل عنهم من المقاعد شيئا . /329-أ/ .

وبعد فإن في ذلك تجزئة بما كان بعضه في ذي إبعاض ، وبعضه يفضل عن ذلك . وذلك كله من وصف الخلائق ، والله يتعالى عن ذلك .

وبعد فإنه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح أو الجبال أنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر ، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه . بل فيها ذكر العظمة والجلال ، إذ ذكر في قوله { له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما } وصفه بالعظمة والسلطان والقدرة . فكذلك على تعظيم العرش أي شيء كان من نور أو جوهر ، لا يبلغه علم الخلق .

وإضافة الاستواء إليه لوجهين :

أحدهما : على تعظيمه بما ذكر على أثره ، ذكر سلطانه في ربوبيته وقدرته وخلقه ما ذكر .

والثاني : على تخصيصه بالذكر بما هو أعظم الخلق وأجله على المعروف من إضافة الأمور العظيمة إلى أعظم الأشياء كما يقال : ثم لفلان ملك بلد كذا ، أو استوى على موضع كذا لا على خصوص ذلك في الحق . ولكن معلوم أن من له ملك ذلك فما دونه أحق به .

وعلى ذلك قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } الآية [ المائدة : 3 ] بما صارت له أم القرى ، وأيس الذين{[12166]} كفروا من دينهم . وكذا ما ذكر من إرسال الرسل إلى الفراعنة وإلى أم القرى لا بتخصيص ذلك ولكن بذكر عظم الأمر .

فمثله أمر العرش ، وهو كقوله : { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } [ الأنعام : 123 ] وقوله { أمرنا مترفيها } [ الإسراء : 16 ] على لحوق غيرهم{[12167]} بهم .

ويحتمل أن يكون على المنع بوصف المكان ؛ إذ هو أعلى الأمكنة عند الخلق ، ولا تقدر العقول شيئا . فأشار إليه ليعلم علوه عن الأمكنة وتعاليه عن الحاجة . وعلى ذلك قوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة } الآية { المجادلة : 7 } .

والنجوى ليست من نوع ما يضاف إلى الأسرار ، فأخبر بعلوه عن الأمكنة وتعاليه عن أن يخفى عليه شيء ، ثم بقدرته وقوته بقوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ ق : 16 ] أي بالسلطان والقوة ، وبألوهيته في البقاع كلها لأنها أمكنة القادة بقوله : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] ، ويملك كل شيء بقوله : { له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } [ طه : 6 ] وبقوله : { له ملك السماوات والأرض } [ البقرة : 107 و . . . ] ثم بعلوه وجلاله بقوله : { وفوق كل ذي علم عليم } [ يوسف : 76 ] [ وقوله : { وهو بكل شيء عليم } [ البقرة : 29 و . . . ] ] {[12168]} وقوله{[12169]} : { والله على كل شيء قدير } [ آل عمران : 29 و . . . ] فجمع في هذه الأحرف ما فرق في تلك ليعلم أنه بكل ما سمي به ، ووصف ، كان ذلك له بذاته ، لا بشيء من خلقه . وكذلك عزه وشرفه ومجده ، جل ثناؤه عن الأشياء ، ولا إله غيره .

وقال بعضهم : يريد بالعرش الملك ؛ إذ هو اسم ما ارتفع من الأشياء ، وعلا ، حتى سميت به السطوح ورؤوس الأشجار والاستواء قيل فيه بأوجه ثلاث{[12170]} :

أحدها : الاستيلاء كما يقال : استوى فلان على كورة كذا بمعنى استولى .

والثاني : العلو والارتفاع كقوله : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } [ المؤمنون : 28 ] وقوله : { إذا استويتم عليه } [ الزخرف : 13 ] أي علوتم .

والثالث : التمام كقوله : { ولما بلغ أشده واستوى } [ القصص : 14 ] أي تم ، واستقر .

وقد قيل : بالقصد ؛ وإلى ذلك وجه بعض أهل الأدب قوله : { ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 و . . . ] بمعنى خلق على التمثيل بفعل الخلق في ما يتلو فعلهم فعلا أن يكون بالقصد ، وإن كان لا يقال له القصد ، ولا قوة إلا بالله .

ثم الوجه في ذلك لو كان [ الاستواء بمعنى الاستيلاء والانفراد بالملك ]{[12171]} أنه مستول على جميع خلقه ، وعلى هذا التأويل المحمول غير هذا لدل على الأمرين قوله : { وهو رب العرش العظيم } [ التوبة : 129 ] بمعنى الملك العظيم ، وفيه إثبات عروش غيره . فلذلك يَحتمل ، ما يُحمل ، وتَخُفُّ بِهِ الملائكة ، والله الموفق .

وأما على تأويل التمام والعلو فهو أن الله تعالى قال : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } الآية [ فصلت : 9 ] فأخبر بخلق ما ذكر في ستة أيام على التفاريق ، ثم أجملها في موضع ، فقال : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض } إلى قوله { ثم استوى } [ الأعراف : 54 ] بمعنى خلق الممتحن من خلق الأرض والسماوات ؛ فيهم ظهر تمام الملك ، وعلا وارتفع ؛ إذ هم المقصودون من خلق ما بينا . فبذلك تم معنى الملك ، وعلا ؛ إذ وصل إلى الذين لهم خُلقوا .

وقد قيل ذا في خلق البشر خاصة بقوله : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } الآية [ البقرة : 29 ] وقوله : { سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض } [ لقمان : 20 ] ونحوه .

وذُكر عن ابن عباس رضي الله عنه أن البشر خلق اليوم السابع ، فيه التمام والعلو ؛ إذ خلق لهم كل شيء ، وهو لعبادة الله ، ولحق بهم الجن بقوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } الآية [ الذاريات : 56 ] لكن المقصود البشر ؛ إذ تسخير ما [ ذكر كله إنما ] {[12172]} يرجع إلى منافعهم . والله الموفق .

والأصل عندنا في ذلك أن الله عز وجل قال : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] فنفى عن نفسه شبه خلقه ، وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشياه ، فيجب القول [ في قوله ] {[12173]} { الرحمان على العرش استوى } [ طه : 5 ] على ما جاء به التنزيل ، إذ{[12174]} ينفي عنه شبه الخلق لما أضاف إليه إذ لزم القول في الله بالتعالي عن الأشباه ذاتا وفعلا ، لم يجز أن يُفهم من الإضافة إليه المفهوم من غيره في الوجود ، والله الموفق . وقد ذكرنا هذا في غير موضع من القرآن .


[12164]:ساقطة من الأصل وم.
[12165]:في الأصل وم: بمجاز.
[12166]:من م في الأصل: الذي.
[12167]:2 في الأصل وم: غير.
[12168]:في م: {وهو بكل شيء قدير} ساقطة من الأصل.
[12169]:في الأصل وم: و.
[12170]:في م: ثلاثة.
[12171]:في الأصل وم: على الاستيلاء والعزيز الملك.
[12172]:في الأصل وم: ذكرت أما.
[12173]:في الأصل وم: ب.
[12174]:في الأصل وم: و.