فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ} (5)

{ الرحمن على العرش } هو اللغة السرير ، وقيل هو ما على فأظل وسمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه { استوى } استواء يليق به ، قال ثعلب : الاستواء الإقبال على الشيء . وكذا قال الزجاج والفراء ، وقيل هو كناية عن الملك والعز والسلطان ، وأما استوى بمعنى استقر ، فقد رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها .

وعن مالك : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، قال البغوي : أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز وجل ، وعن الثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم في أمثال هذه الآيات التي جاءت في الصفات أقروها كما جاءت بلا كيف وفيه مذهبان .

الأول : القطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة وعدم الخوض في تأويلها وبه قال الخازن واختاره .

الثاني : الخوض فيه على التفصيل ، وفيه قولان :

الأول : العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك ، فإذا استقام له ملكه ، واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه قاله القفال ، قال الخازن : والذي قاله حق وصواب والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة ، ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس . { ثم استوى على العرش يدبر الأمر } فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله : { ثم استوى على العرش } .

الثاني : أن يكون استوى بمعنى استولى ، وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين ، واحتجوا عليه بقول الشاعر .

قد استوى بشر على عراق من غير سيف و دم مهراق

ورد هذا بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى ، وإنما يقال استوى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ، ثم ملكه واستولى عليه ، والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها ، فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات ؟ وقال أبو الحسن الأشعري : المعنى أن الله مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها ولا تحله ولا يحلها ولا يماسها ولا يشبهها .

وعن ابن الأعرابي : جاءه رجل فقال : ما معنى هذه الآية ؟ قال : إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل إنما معنى قوله : استوى استولى فقال له ابن الأعرابي : ما يدريك العرب لا تقول استوى فلان على الشيء ، حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب ؟ قيل لمن غلب قد استولى عليه والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر ، لا كما يظنه البشر ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في سورة الأعراف وفيه رسائل مستقلة وكتب مفردة للحفاظ والمحدثين ونزاع قديم بين المتقدمين والمتأخرين .

والحق ما ذهب إليه سلف الأمة وأئمتها من إمرار الصفات على ظاهرها من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تأويل ، والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم والمجتهدين الأربعة وأهل الحديث والأثر ، الذين يمرون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تعطيل ولا تأويل والبحث في تحقيق هذا يطول جدا وليس هذا موضع بسط ذلك ردا وتعقبا وقد أوضحنا ذلك إيضاحا شافيا في رسائلنا ( الانتقال الرجيح ) و ( هداية السائل ) و ( بغية الرائد ) {[1182]} وغيرها فليرجع إليها قاله الشوكاني .


[1182]:يسر لنا اله طبعها.