{ وما يذكرون } قرأ نافع ويعقوب " تذكرون " بالتاء والآخرون بالياء ، { إلا أن يشاء الله } قال مقاتل : إلا أن يشاء الله لهم الهدى . { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } أي أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا ابن فنجويه ، حدثنا عمر بن الخطاب ، حدثنا عبد الله بن الفضل ، حدثنا هدية بن خالد ، حدثنا سهيل بن أبي حزم ، عن ثابت ، عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } قال : قال ربكم عز وجل : أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري ، وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له " وسهيل هو ابن عبد الرحمن القطعي ، أخو حزم القطعي .
{ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فإن مشيئته{[1288]} نافذة عامة ، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير ، ففيها رد على القدرية ، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله ، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة ، ولا فعل حقيقة ، وإنما هو مجبور على أفعاله ، فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلا ، وجعل ذلك تابعا لمشيئته ، { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } أي : هو أهل أن يتقى ويعبد ، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه . تم تفسير سورة المدثر ولله الحمد{[1289]} .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بما يدل على نفاذ مشيئته وإرادته فقال : { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } .
أى : فمن شاء أن يذكر القرآن وما فيه من مواعظ ذكر ذلك ، ولكن هذا التذكر والاعتبار والاتعاظ . لا يتم بمجرد مشيئتكم ، وإنما يتم فى حال مشيئة الله - تعالى - وإرادته ، فهو - سبحانه - أهل التقوى ، أى : هو الحقيق بأن يتقى ويخاف عذابه ، وهو - عز وجل - " أهل المغفرة " أى : هو - وحده - صاحب المغفرة لذنوب عباده ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
فالمقصود من الآية الكريمة ، بيان أن هذا التذكر لمواعظ القرآن ، لا يتم إلا بعد إرادة الله - تعالى - ومشيئة ، لأنه هو الخالق لكل شئ ، وبيان أن مشيئة العباد لا أثر لها إلا إذا كانت موافقة لمشيئة الله ، التى لا يعلمها أحد سواه .
أخرج الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجة عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } فقال : قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معى إله ، فمن اتقانى فلم يجعل معى إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له " .
وبعد أن يثبت مشيئتهم في اختيار الطريق يعقب بطلاقة المشيئة الإلهية ، وعودة الأمور إليها في النهاية . وهي الحقيقة التي يحرص القرآن على تقريرها في كل مناسبة لتصحيح التصور الإيماني من ناحية طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها الكامل الأخير ، وراء جميع الأحداث والأمور :
( وما يذكرون إلا أن يشاء الله ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) . .
فكل ما يقع في هذا الوجود ، مشدود إلى المشيئة الكبرى ، يمضي في اتجاهها وفي داخل مجالها . فلا يقع أن يشاء أحد من خلقه ما يتعارض مع مشيئته ، ومشيئته تسيطر على أقدار الوجود كله ، وهي التي أنشأته وأنشأت نواميسه وسننه ، فهو يمضي بكل ما فيه وكل من فيه في إطار من تلك المشيئة المطلقة من كل إطار ومن كل حد ومن كل قيد .
والذكر توفيق من الله ييسره لمن يعلم من حقيقة نفسه أنه يستحق التوفيق . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . فإذا علم من العبد صدق النية وجهه إلى الطاعات .
والعبد لا يعرف ماذا يشاء الله به . فهذا من الغيب المحجوب عنه . ولكنه يعرف ماذا يريد الله منه ، فهذا مما بينه له . فإذا صدقت نيته في النهوض بما كلف أعانه الله ووجهه وفق مشيئته الطليقة .
والذي يريد القرآن أن يطبعه في حس المسلم هو طلاقة هذه المشيئة ، وإحاطتها بكل مشيئة ، حتى يكون التوجه إليها من العبد خالصا ، والاستسلام لها ممحضا . . فهذه هي حقيقة الإسلام القلبية التي لا يستقر في قلب بدونها . وإذا استقرت فيه كيفته تكييفا خاصا من داخله ، وأنشأت فيه تصورا خاصا يحتكم إليه في كل أحداث الحياة . . وهذا هو المقصود ابتداء من تقرير طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها عقب الحديث عن كل وعد بجنة أو نار ، وبهدى أو ضلال .
فأما أخذ هذا الإطلاق ، والانحراف به إلى جدل حول الجبر والاختيار ، فهو اقتطاع لجانب من تصور كلي وحقيقة مطلقة ، والتحيز بها في درب ضيق مغلق لا ينتهي إلى قول مريح . لأنها لم تجيء في السياق القرآني لمثل هذا التحيز في الدرب الضيق المغلق !
( وما يذكرون إلا أن يشاء الله ) . . فهم لا يصادمون بمشيئتهم مشيئة الله ، ولا يتحركون في اتجاه ، إلا بإرادة من الله ، تقدرهم على الحركة والاتجاه .
والله ( هو أهل التقوى ) . . يستحقها من عباده . فهم مطالبون بها . .
( وأهل المغفرة ) . . يتفضل بها على عباده وفق مشيئته .
والتقوى تستأهل المغفرة ، والله - سبحانه - أهل لهما جميعا .
بهذه التسبيحة الخاشعة تختم السورة ، وفي النفس منها تطلع إلى وجه الله الكريم ، أن يشاء بالتوفيق إلى الذكر ، والتوجيه إلى التقوى ، والتفضل بالمغفرة .
وقوله : فَمَن شاءَ ذَكَرَه يقول تعالى ذكره : فمن شاء من عباد الله الذين ذكرهم الله بهذا القرآن ذكره ، فاتعظ فاستعمل ما فيه من أمر الله ونهيه وَما يَذْكُرُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ يقول تعالى ذكره : وما يذكرون هذا القرآن فيتعظون به ، ويتسعملون ما فيه ، إلا أن يشاء الله أن يذكروه ، لأنه لا أحد يقدر على شيء إلا بأن يشاء الله يقدره عليه ، ويعطيه القدرة عليه .
وقوله : هُوَ أهْلُ التّقْوَى وأهْلُ المَغْفِرَةِ يقول تعالى ذكره : الله أهل أن يتقي عبادُه عقابهَ على معصيتهم إياه ، فيجتنبوا معاصيه ، ويُسارعوا إلى طاعته ، وأهل المغفرة يقول : هو أهل أن يغفر ذنوبهم إذا هم فعلوا ذلك ، ولا يعاقبهم عليها مع توبتهم منها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة هُوَ أهْلُ التّقْوَى وأهْلُ المَغْفِرَةِ ربنا محقوق أن تتقي محارمه ، وهو أهل المغفرة يغفر الذنوب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله هُوَ أهْلُ التّقْوَى وأهْلُ المَغْفِرَةِ قال : أهل أن تتقي محارمه ، وأهل المغفرة : أهل أن يغفر الذنوب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما يذكرون} يعني وما يشهدون {إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} يعني الرب تبارك وتعالى نفسه، يقول: هو أهل أن يتقى ولا يعصى، وهو أهل المغفرة لمن يتوب عن المعاصي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وما يذكرون هذا القرآن فيتعظون به، ويستعملون ما فيه، إلا أن يشاء الله أن يذكروه، لأنه لا أحد يقدر على شيء إلا بأن يشاء الله يقدره عليه، ويعطيه القدرة.
الله أهل أن يتقي عبادُه عقابه على معصيتهم إياه، فيجتنبوا معاصيه، ويُسارعوا إلى طاعته.
"وأهل المغفرة" يقول: هو أهل أن يغفر ذنوبهم إذا هم فعلوا ذلك، ولا يعاقبهم عليها مع توبتهم منها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فأهل التأويل صرفوا قوله تعالى: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} إلى الله تعالى، وجائز أن يصرف إلى البشر.
فإن كان المراد من قوله عز وجل: {هو أهل التقوى} البشر فيكون معنى قوله: {هو أهل التقوى} أي الذي يقوم بالذكر؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها}؟ [الفتح: 26] فجعل الذين ألزمهم كلمة التقوى من أهل التقوى.
وإن كان المراد من قوله عز وجل: {هو أهل التقوى} هو الله سبحانه وتعالى فتأويله: أنه أهل تقى الزلة والعثرة في حقوقه تعالى.
والوجه فيه أن المرء في الشاهد إنما يتقي الزلة والعثرة إلى آخر لإحدى خصال ثلاث:
إحداها: لما يرى من افتقاره وحاجته إليه يتقي العثرة تبجيلا وتعظيما.
والثانية: لما يرى من قدرته وسلطانه على الانتقام منه يتقي زلته.
والثالثة: لكثرة نعمه وأياديه [يتقي زلته استحياء منه.
وإذا كانت هذه الأشياء، هي الداعية إلى الاتقاء، والخلائق بأجمعهم مفتقرون ومُحتاجون إلى الله تعالى، وله القدرة والسلطان عليهم، وهو المنعم على كل أحد، فهو أهل أن يعظم، ويوقر، وأن تخاف نقمته، ويستحيى منه. ومن اتقي صار أهلا لأن يغفر.
وجائز أن يكون معنى قوله عز وجل: {هو أهل التقوى} أي هو بأن يسأل عما يتقى من النار لقوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 131] وقوله: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم: 6].
ثم علمنا وجه الاتقاء بقوله: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201] فبين أن الاتقاء أن يفرغ [المرء إلى الله تعالى، ويتضرع إليه، ليقيه بفضله ورحمته... فهو أهل أن يطلب منه ما يقي به، وأهل أن يستعاذ به لدفع كيد العدو {وأهل المغفرة} أي أهل أن يطلب منه المغفرة
جعلنا الله تعالى من أهل التقوى والذين منّ عليهم بالمغفرة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{هو أهل التقْوَى وأهل المغْفِرةِ} فيه ثلاثة أوجه: ويحتمل رابعاً: أهل الانتقام والإنعام.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
أهل أن يتقى عقابه {وأهل المغفرة} أهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر تعالى أن ذكر الإنسان معاده وجريه إلى فلاحه إنما هو كله بمشيئة الله تعالى وليس يكون شيء إلاّ بها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} وقال: " قال ربكم: أنا أهل أن أتقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا ربما أوهم أن للعبد استقلالاً بالتصرف، قال معلماً بأن هذا إنما هو كناية عما له من السهولة والحلاوة والعذوبة التي توجب عشقه لكل ذي لب منبهاً على ترك الإعجاب وإظهار الذل والالتجاء والافتقار إلى العزيز الغفار في طلب التوفيق لأقوم طريق: {وما يذكرون} أي ولا واحد منكم هذا القرآن ولا غيره في وقت من الأوقات {إلا أن يشاء الله} أي الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه، وهو صريح في أن فعل العبد من المشيئة، وما ينشأ عنها إنما هو بمشيئة الله. ولما ثبت أنه سبحانه الفعال لما يريد وأنه لا فعل لغيره بدون مشيئته، وكان من المعلوم أن أكثر أفعال العباد مما لا يرضيه، فلولا حلمه ما قدروا على ذلك، وكان عفو القادر مستحسناً، قال مبيناً لأنه أهل للرهبة والرغبة: {هو} أي وحده {أهل التقوى} أي أن يتقوه عباده ويحذروا غضبه بكل ما تصل قدرتهم إليه لما له من الجلال والعظمة والقهر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد أن يثبت مشيئتهم في اختيار الطريق يعقب بطلاقة المشيئة الإلهية، وعودة الأمور إليها في النهاية. وهي الحقيقة التي يحرص القرآن على تقريرها في كل مناسبة لتصحيح التصور الإيماني من ناحية طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها الكامل الأخير، وراء جميع الأحداث والأمور: (وما يذكرون إلا أن يشاء الله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة).. فكل ما يقع في هذا الوجود، مشدود إلى المشيئة الكبرى، يمضي في اتجاهها وفي داخل مجالها. فلا يقع أن يشاء أحد من خلقه ما يتعارض مع مشيئته، ومشيئته تسيطر على أقدار الوجود كله، وهي التي أنشأته وأنشأت نواميسه وسننه، فهو يمضي بكل ما فيه وكل من فيه في إطار من تلك المشيئة المطلقة من كل إطار ومن كل حد ومن كل قيد. والذكر توفيق من الله ييسره لمن يعلم من حقيقة نفسه أنه يستحق التوفيق. والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فإذا علم من العبد صدق النية وجهه إلى الطاعات. والعبد لا يعرف ماذا يشاء الله به. فهذا من الغيب المحجوب عنه. ولكنه يعرف ماذا يريد الله منه، فهذا مما بينه له. فإذا صدقت نيته في النهوض بما كلف أعانه الله ووجهه وفق مشيئته الطليقة. والذي يريد القرآن أن يطبعه في حس المسلم هو طلاقة هذه المشيئة، وإحاطتها بكل مشيئة، حتى يكون التوجه إليها من العبد خالصا، والاستسلام لها ممحضا.. فهذه هي حقيقة الإسلام القلبية التي لا يستقر في قلب بدونها. وإذا استقرت فيه كيفته تكييفا خاصا من داخله، وأنشأت فيه تصورا خاصا يحتكم إليه في كل أحداث الحياة.. وهذا هو المقصود ابتداء من تقرير طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها عقب الحديث عن كل وعد بجنة أو نار، وبهدى أو ضلال. فأما أخذ هذا الإطلاق، والانحراف به إلى جدل حول الجبر والاختيار، فهو اقتطاع لجانب من تصور كلي وحقيقة مطلقة، والتحيز بها في درب ضيق مغلق لا ينتهي إلى قول مريح. لأنها لم تجيء في السياق القرآني لمثل هذا التحيز في الدرب الضيق المغلق! (وما يذكرون إلا أن يشاء الله).. فهم لا يصادمون بمشيئتهم مشيئة الله، ولا يتحركون في اتجاه، إلا بإرادة من الله، تقدرهم على الحركة والاتجاه. والله (هو أهل التقوى).. يستحقها من عباده. فهم مطالبون بها.. (وأهل المغفرة).. يتفضل بها على عباده وفق مشيئته. والتقوى تستأهل المغفرة، والله -سبحانه- أهل لهما جميعا. بهذه التسبيحة الخاشعة تختم السورة، وفي النفس منها تطلع إلى وجه الله الكريم، أن يشاء بالتوفيق إلى الذكر، والتوجيه إلى التقوى، والتفضل بالمغفرة. (هو أهل التقوى وأهل المغفرة).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: أن تذكُّر من شَاءوا أن يتذكروا لا يقع إلاّ مشروطاً بمشيئة الله أن يتذكروا، وقد تكرر هذا في القرآن تكرراً ينبه على أنه حقيقة واقعة كقوله: {وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله} [التكوير: 29] وقال هنا {كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره} فعلمنا أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاءِ في الدنيا والآخرة وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري، وعند المعتزلة بالقدرة الحادثة، وهما عبارتان متقاربتان، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد.
وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق إذا تعلقت بإقدار العبد على الداعية إلى الطاعة وامتثال الوصايا الربانية، وبالخِذلان إذا تعلقت بتركه في ضلاله الذي أوْبَقَتْهُ فيه آراؤه الضالة وشهواته الخبيثة الموبقة له في الإِعراض عن شرائع الله ودعوة رسله، وإذا تعلقت بانتشال العبد من أوْحَال الضلال وبإنارَة سبيل الخير لبصيرته سميت لُطفاً مثل تعلقها بإيمان عُمر بن الخطاب وصلاحه بعد أن كان في عناد، وهذا تأويل قوله تعالى: {فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يُرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يَصَّعَّدُ في السماء} [الأنعام: 125].
هذا حاصل ما يتمخض من الجمع بين أدلة الشريعة المقتضية أن الأمر لله، والأدلةِ التي اقتضت المؤاخذة على الضلال، وتأويلُها الأكبرُ في قوله تعالى: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلّ من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 78، 79] وَلله في خلقه سرّ جَعل بينهم وبين كنهه حجاباً، ورَمَزَ إليه بالوعد والوعيد ثواباً وعقاباً.
نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول 2010 هـ :
الهدى المنهاجي في سورة المدثر يمكن تبيينه في النقط التالية:
الهدى الأول: إذا تحقق عبد الله مما باسم ربه قرأ، وتخلّق متبتِّلاً إلى ربّه بما منه تحقق، لم يبق له إلا توديع الادّثار، للقيام بالإنذار:
واضح أن هذه النقطة مترتبة على آية المطلع، وعلى ما سبق في مطلع سورة العلق، ومطلع سورة المزمل؛ كأننا بهذه الآية نبتدئ مرحلة جديدة بعد مرحلة القراءة باسم ربنا، وبعد مرحلة قيام الليل، واستيعاب العمل بتلك القراءة في خاصة النفس، للتخُّلق بمقتضى تلك القراءة.
فإذا حدث ذلك وجب أن ينتقل العبد إلى مرحلة الإنذار.
ومعلوم أن الإنذار في كتاب الله عز وجل سار، كما سنرى، حسب ترتيب معين:
جاء الأمر عاما أولا كما في هذه السورة.
ثم بعد ذلك جاء \(\وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ\)\ [الشعراء: 213].
ثم بعد ذلك جاء \(\لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا\)\ [الشورى: 5].
ثم بعد ذلك جاء \(\لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ\)\ [السجدة: 2].
ثم بعد ذلك جاء \(\لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا\)\ [الفرقان: 1] وهذا يجلِّي خاصية التدرج في تنزيل هذا الدين وتطبيقه والعمل به ولَهُ.
الهدى الثاني: صفات المنذر خمس عزائم، هُنَّ الزَّاد العاصم من القواصم:
الصفة الأولى: التكبير؛ تكبير ربه في قلبه على كل ما سواه. وهذه رأس الزاد، وعيْنُ المدد. فالله جل وعلا بعد أن قال: \(\يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)\)\ قال: \(\وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)\)\. هذه الآيات/الصفات بمثابة زاد الداعية، زاد المصلح، زاد المنذر، زاد العبد الذي ينهض للقيام بما قام به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أول مرة. هذه هي الزاد، وأول هذا الزاد هو تكبير الله جلّ وعلا في القلب، هذا التكبير يعني: ألا يبقى في قلب العبد شيء يكون أكبر من الله، ولا شيء ينافس الله، ويشاركه سبحانه في الأكبريّة في قلب العبد.
فقلب العبد يجب أن يخْلُص لله عز وجل في استيقانه بأن الله جل جلاله هو الأكبر مطلقا، فلا كبير أكبر منه، ولا كبير معه.
ومعنى ذلك أن تصير هذه الأكبرية يقينا عند العبد، ولابد لهذا اليقين من مقتضيات في الواقع، يصبح معها ما جاء من عند الله هو الأكبر دوما. هذه التشريعات هي أكبر من سواها من تشريعات بني آدم، والأخلاق التي هدى الله عز وجل إليها هي أكبر وأحسن من جميع الأخلاق...، أي إن كل ما جاء من عند الله، هو دائما أكبر وأفضل وأحسن مما سواه، وينبغي أن يُقَدَّم عند التعارض على ما سواه.
ومتى استقرت هذه الحقيقة، فإن العبد لا يحتاج إلى أن يُحْدِث هذه المعادلات، وهذه الترجيحات، بل إذا حدث شيء فإنه يتجه جهة الأكبر: جهة الله جلّ جلاله تلقائيا. وهذا الأمر يكون في التفكير، وفي التعبير، وفي التدبير، أي في جميع جوانب تصرفات العبد على جميع المستويات، لأنه لا شيء أكبر من الله، كل شيء صغيرٌ أمام الله عز وجل، والله وحدهُ المتفرِّد بالأكبرية.
وهذه الحقيقة لا تستقر بسرعة في قلب العبد، فلا بد من التدرُّج.
ومما يدل على ذلك كوْن شعيرة الصلاة -التي هي عمود الدين- تتردَّدُ فيها باستمرار، كلمة "الله أكبر"؛ الله أكبر في القيام، وفي الركوع، وفي السجود، وهكذا، والصلاة بطبيعتها متكررة، كأن العبد يغفُل كثيرا عن هذه الحقيقة، ولا يستيقنها في قلبه كما ينبغي، ولا يطبّقها في حياته كما ينبغي، فينبغي أن يُذكَّر بها كثيرا وفي كل حين. هذا الذي يفهم من هذا التكرير الكثير. ثم إنها هي رأس الزاد، وعين المدد، وهي المنطلق وكل ما سواها تبعٌ لها، من تطهير الثياب، أو هجر الرجز، أو العطاء بلا عد ولا حد، أو الصبر ابتغاء مرضاة الله، كل ذلك سبَبُه أن هذه الحقيقة قد استقرت في القلب، حقيقة أن الله أكْبَر، ولذلك يهون كُلّ شيء، ويسهُل كل شيء؛ لأنه يُفْعَل بإذن رب كل شيء، وبحوْل ربِّ كل شيء، سبحانه.
الصفة الثانية: التطهير: تطهير ذات المنذر، تطهير ذاته قلْبًا وقالبا؛ بالتحلي بالخُلق الحسن، وهذه هي الدرع الواقية للداعية، والحصنُ الحصين الذي يقطع الطريق على كل الشياطين.
التطهير الذاتي قلباً وقالبا بالتحلي بالخلق الحسن؛ ذلك بأن الإسلام يصنع النموذج، النموذج المحمي بالسنة. والعبدُ حين يعيش في إطار السنة، أي يعيش في إطار ما شرع الله جلّ وعلا يكون محْمِيًّا، يكون محفوظا، ولا يتسرب إليه البلاء والخطر إلا إذا خرِقت الجُنّة؛ أي إذا حدث ثُقْب في هذا الدرع الواقي الذي هو حياة السنة، أي الحياة وفق الشرع، وفق شرع الله عز وجل، إذا حدث ذلك كانت الحياة كلها أجرا -مأجوراً عليها-، حتى النوم، وحتى إتيان الشهوات الحلال كما قال –صلى الله عليه وسلم-: "وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"، وإن اجتهد في إطار الشرع يكون مأجوراً أيضا، ويكون محفوظا من الشياطين، محفوظا بالملائكة الذين سخرهم الله تعالى للمؤمنين، يستغفرون لهم ويحمونهم ويحفظونهم.
إذن هذا السلاح: سلاح تطهير الذات قلبا وقالبا بالتحلي بالخلق الحسن هو التحدي، فإذا وُجد الخلق الحسن فإنه يصعب اختراقُ العبد، ويصعب بيعه أو شراؤه؛ لأنه لا يباع ولا يشترى، ولا يمكن أن يُتخذ مطية لأخذ أسرار المسلمين، ولا يمكن أن يُرتشى أو يُغرى، فكل الوسائل لا تنفع فيه؛ لأنه بناء من طراز خاص، لا يُبنى بغير الإسلام، ويعْسُر ويتعذر أن يُبنى بغير شرع الله، فكأنه قيل: إذا كَبّرْت الله، فتطهّر مما لا يرضي الله عز وجل، أي تخَلّق بالخلق الحسن الذي يرضي الله.
وتطهير الثياب كناية عن هذا. وهو تعبير عربي مشهور. جاء في بيْت لعنترة:
فشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأصم ثِيَابَهُ ليْسَ الكَرِيمُ على القَنا بمحرم
الثياب هي تعبير لغوي يعبر عن الكيان جملة \(\وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ\)\ يعني طهر نفسك مطلقاً وبصفة عامة، وتخلَّق بالأخلاق الحسنة، وابتعد عن الرذائل. هذا التطهير هو الدرع الواقية للداعية، والحصن الحصين الذي يقطع الطريق على كل الشياطين، وهو في غاية الأهمية؛ لأنه قبل أن يتم هذا التخلُّق، يكون العبد مفتوحا مفضوحا يمكن النفاذ إليه من كل جهة.
الصفة الثالثة: هجر الرجز: أي اجتناب كل ما هو رجس من الأوثان إلى كل ما يضطرب ويحيكُ في الصدر من الآثام، وهذه التي تمنع من خرق الجُنَّة، وتحفظ الداعية إلى الله عز وجل من التلطخ بأوساخ البيئة والتلوث بصفة عامة. فإذا أنت تحليت بالخلق الحسن، فينبغي أيضا أن تهجر كل ما يوجد في البيئة مما لا تطمئن إليه النفس فـ"البر حُسْن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس".
الرجز فُسّر بالأوثان والأصنام، وفسر بالعذاب، وفُسر بالأوثان والأصنام لأنها تؤدي إلى العذاب. ولكن بالتتبع للَّفظة في الاستعمالات اللغوية بصفة عامة يظهر بجلاء أن محورها الذي تدور عليه هو الاضطراب. يقال: شيء رجز بمعنى يضطرب ولا يستقر، وكأن الأشياء التي لا يطمئن قلب المؤمن إليها، فيها شيء، فيها إثم، لا ينبغي أن تُجارى وإن فعلها الناس في البيئة، فكل ما لا ترتاح إليه نفس المؤمن، ولا تسكن ولا تطمئن إليه ينبغي أن يُهْجُر.
وهكذا فإذا ذهبنا مع اللفظة العربية، وفهمنا هذه الآية على مقتضى الاستعمال العربي للفظة الرجز في القرآن الكريم نفسه فإنّا نجد أن الرجز دائما يدور على معنى الاضطراب، حتى في العذاب الذي ينزل بالناس ينزل بهذا المعنى \(\فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [البقرة: 58] يعني شيء فيه اضطراب.
والرجز يستعمل في الرعد أيضا، ويستعمل في ما يشبه ذلك فيما فيه تردد واضطراب وزلزلة، فكأن هذه الصفة أعلى من سابقتها.
فإذا كانت صفة التطهير تتجه إلى أنه ينبغي أن يكون خلق المؤمن -أي خلق الداعية إلى الله- حسنا صالحا، فإن هذه الصيغة (صيغة هجران الرجز) التي تْتلو بعدُ، تتّجه ليس إلى النفس في ذاتها -كما في صفة التطهير- بل في علاقة الداعية بما تفعله البيئة من الأشياء غير الصالحة التي يجب أن يهجرها.
إذا كانت صفة التطهير عليه أن يفعلها، فهذه عليه أن يهجُرها ويترُكها. ولذلك قلت: هذه تمنع من خرق الجُنة التي اكتسبها العبد بالصفة الثانية، وتحفظ الداعية إلى الله عز وجل من التلوث بأوساخ البيئة، وهذا كله يعطيه تميزا، ويعطيه صفاء.
الصفة الرابعة: العطاء بلا عَدٍّ ولا حَدٍّ: أي لا يمكن عدُّ هذا العطاء ولا يمكن حدُّه أيضا، فهو عطاء لا ينضب.
هذه الصفة هي التي تجعل من الداعية إلى الله عز وجل نبْعاً دائم الجريان، ونجْما شديدَ اللمعان، لا يعروه فتور، ولا يقربه قصور؛ لأن هذا الإشكال كثيرا ما يحدث في حال الذي يسير إلى ربه، هذا التوجيه الإلهي في الصفة الرابعة للمنذر يدفعه إلى أن يحافظ على السرعة الممتازة باستمرار في السير. بل يدفعه إلى أقصى ما يستطيع، وهي قوله تعالى: \(\وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ\)\.
وقد فسرت، لا تمنن تفسيرات أهمها فيما راجعت: لا تمُنّ بما فعلت تسْتَكْثر بذلك على الناس.
وفُسِّرت بـ: لا تعط رجاء أن تأخذ من الآخرين أكثر مما أعطيت.
ولكن المن في اللغة العربية -سواء عند العالم اللغوي المشهور الذي اهتم بأصول الدلالات العربية وهو ابن فارس في المقاييس، أو في معجم الراغب الأصفهاني الذي لا أملُّ من التنويه به؛ لأنه اهتم بالدلالة القرآنية خاصة- يرشد إلى غير هذا.
جاء عند الراغب أن المنة هي النعمة الثقيلة، وليست النعمة العادية: وانطلق أساساً من أن المن هو ما يوزن ويثنى، وغير ممنون: غير موزون، بمعنى أن الأشياء التي يوزن بها، والتي توزن هي الأشياءُ الثقيلة في أصلها.
هذا شيء نربطه مع شيء آخر هو معنى القطع، إذ المَنُّ هو القطع أيضا، وسبق الكلام قبل في \(\وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ\)\ [القلم: 3] معناه: وإن لك لأجرا مستمرا، غير مقطوع.
{لا تَمْنُن} يعني لا تقطع، واصِل باستمرار، لا تقطع ترى أنك قد فعلت الكثير، بل استمر باذلا إلى أقصى ما تستطيع، امْنُن \(\هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ\)\ [ص: 38] لذلك قلت: إن هذه الصفة مهمة جدا، فينبغي أن يجتهد عبد الله في التحَلِّي بها ليستطيع الوفاء، ليستطيع أن يُنْذر حقا كما أنذر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، يبذل بلا حساب ويُعطي بلا حساب، ولا يرى يوما أنه قد فعل شيئا، أو أنه قد فعل الكثير فيكفي. إذ لاتوجد لفظة "يكفي "في السير إلى الله عز وجل والدعوة إلى الله عزو جل. بل إياك إياك أن تمنن مستكثرا لفعلك. وهي الصفة التي تجعل من الداعية نبْعًا دائم الجريان، دائم العمل، باذلا باستمرار، لا ينقطع ولا يعرف الانقطاع \(\وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ\)\ [الحجر: 99] مستمرا على البذل حتى الموت.
وهذه هي الضامنة لاستمرار ما سبق، فلا يحافظ على استمرار الصفات السابقة إلا بالصبر. والصبر عادة في القرآن الكريم يأتي في الأخير بدءا من سورة العصر \(\وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)\)\ تتبعوا الآيات التي فيها صفات تجدوا الصبر في الأخير: \(\سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ\)\ [الرعد: 25] أيضا في عباد الرحمان تجدون الصبر في الأخير \(\أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا\)\ [الفرقان: 75]؛ لأن الصبر هو الصفة التي تضمن استمرار الصفات الأخرى، ولذلك تأتي في الخواتم، فهي ضامنة استمرار السوابق، ومانعة نزول الصواعق.
هذه الصفة تمنع من أن تنزل البلايا الماحقة؛ قد تأتي فتن التّنْقية، أو فتن التّرقية، أو فتن التّقوية، لكنّ فتن الإبادة لا تأتي مع هذه الصفة بإذن الله تعالى.
فهذه الصفات الخمس ضرورية كلها على ترتُّبها، ضروريةٌ للعبد الذي هيأه الله عز وجل ووفقه للإنذار، والاستجابة لهذا النداء الرباني \(\يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ\)\.
وهذه الآيات السبع هي التي على أساسها رُتبت السورة في النزول، فكانت من أوائل ما نزل على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وفيها الحديث المشهور الذي فيه "فإذا الملك الذي جاءني بحراء"؛ لأن بعض العلماء جعلوا هذه السورة أول ما نزل على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-أخذا من حديث في صحيح الإمام البخاري، لكن الحديث نفسه في صحيح الإمام مسلم فيه هذه الزيادة التي توضِّحُ المقصود، فضلا عن الحديث الخاص بنزول سورة العلق المتفق عليه.
بعد هذا اتجهت السورة وجهة كاملة منسجمة مع بعضها صيغت نقطها على الشكل التالي:
الهدى الثالث: إذا بدأ الإنذار بدأ الاستكبار.
وهذا في غاية المنطقية، ولا يفتر أصحاب الاستكبار عن المكر حتى يأتيهم اليقين، فيكون منتهاهم النار:
أقول: إذا بدأ الإنذار بدأ الاستكبار، بمعنى أنه عندما يظهر في بيئة ما من يدعو إلى الله بصدق، وينذر الناس من الخطر الذي يتَهَدَّدُهم في الدنيا، والخطر الأعظم الذي يتهددهم في الآخرة، فإنه تلقائيا ردًّا لهذا الفعل يظْهَرُ ناسٌ أو أفراد، ثم بعْدُ مجموعات بشرية ترفض هذه الدعوة، وترفض أن يقال لها هذا نهائيا، وتستكبر، ترى نفسها أكبر من أن يقال لها هذا أو أن تُذعن له. ولذلك أسباب ستأتي بعد.
ومما يستفاد من هذه النقطة أن الدعوة اشتغالها أساسا بالفعل، وغيْرُها هو الذي يشتغل برَدِّ الفعل. وهذه نقطة تحتاج إلى تأمل.
الهدى الرابع: من مظاهر الاستكبار التي ذكرت في هذه السورة:
- المظهر الأول: الكفر بالدين. وهو أول ما تشير إليه الآيات بطريقة مباشرة، بعد تلك الآيات السبع: \(\فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)\)\.
وهو لا يتجه إلى أن يحدثنا عن رد الفعل لتلك النذارة بالشكل المباشر، ولكن يتجه إلى تخوِيف هولاء الذين كان لهم هذا النوع من الردِّ، تخوّفهم من يوم القيامة.
- المظهر الثاني: التشغيل المركَّزُ للفِكر من أجل اختلاق مطْعَنٍ في ربانية القرآن الكريم.
وذلك واضح في هذا المشهد الذي تصوره هذه السورة: مشهد الوليد بن المغيرة وهو يفكر ويقدر، ويتقدم ويتأخر، وينظر، ويعبس، ويبسر،... إلى غير ذلك مما يدل على جهد كبير قد بذله هذا الرجل ليخرج بنتيجة هي: \(\إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ\)\ بعد معاناة فكرية كبيرة.
فالوليد عندما سمع من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- القرآن، بدَا له أنه ليس بشعر، وليس بكهانة، وأنه يخالف الكلام الذي ألفه العرب، بجميع أشكاله، ولكن قومه أحرجوه عندما اتهموه بالصَّبأ، أي الخروج من الدين: هل صبأت؟
ولينفي عن نفسه هذه التهمة ظل يفكر ويقدِّر، وبدل أن يتَّجه الوجهة الصالحة اتجه الوجهة السيئة للأسف، وبدأ يشغل فكره بأقصى طاقة ليصل إلى النتيجة السيئة التي ستستخدمها البيئة بكاملها في حرب دعوة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- \(\إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ\)\.
هذا أيضا من مظاهر الاستكبار في زماننا: فكم من دُور نشْر تشتغل؟! وكم من قنوات تشتغل؟! وكم من مراكز للبحوث والدراسات تشتغل؟! وكم من عقول تذوب؟!، من أجل البحث عن وسائل لوقف هذا المد الإسلامي الناهض؟!، ووقف هذا الدين الصاعد؟!. ما القصة؟ كيف؟
إنها تشتغل ليل نهار، ولكن تبقى دائما قاعدة: "الله أكبر". "الله أكبر".
فهذا من المظاهر \(\إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)\)\ فوَلَد هذا الموْلُود \(\فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)\)\.
أقول: هذه الصورة الناطقة المشخّصة لحال هذا المستكبر الذي أدبر واستكبر، تدل على أنه قد عانى معاناة كبيرة ليخرج بهذه النتيجة التي يطعن بها في ربانية القرآن الكريم، وأنه ليس من عند الله بل هو كلام البشر \(\إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ\)\.
وهذا الأمر نعرف جميعا أنه من مجهود الاستشراق الغربي الليبرالي والاستشراق الماركسي، والاستغراب الماركسي، والاستغراب الليبرالي، كل أولئك بذلوا ويبذلون مجهودات جبارة للطَّعْن في ربانية القرآن الكريم، ولكن عبثا يحاولون \(\إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ\)\ [الحجر: 9].
- المظهر الثالث: عدم الصلاة لرب العالمين.
في آخر السورة \(َا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)\)\ الصلاة لرب العالمين أكبر مظهر للذِّلة والخضوع والإذعان لرب الملك. الصلاة، بمظهر الركوع، ومظهر السجود، و"أقرب ما يكونُ العبد من ربه وهُو ساجد، فأكثروا الدعاء"، مظهر للذلة، ومظهر للخضوع لرب الملك.
المستكبرون يرفضون الصلاة، وهي من أشق ما يشق عليهم، فلذلك كان رفضهم للصلاة مظهراً من مظاهر الاستكبار. والسورة تذكر هذه المظاهر تباعا، أنها المظاهر التي أدْخَلتهم وأورثتهم سقر.
ولكن ماذا يعني هذا؟ يعني من زاوية أخرى أن الصلاة فيها السِّرُّ كله في الربط بين العبد وربه، وفي النجاة؛ لأن عن طريقها يمر الخير، يكون الاتصال بالله جل وعلا، فالذي يرفض الاتصال ينقطع، ينْبَتُّ، فينتهي إلى جهنم.
- المظهر الرابع: عدم إطعام المسكين: أتى مباشرة بعد عدم الصلاة \(\لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)\)\ يعني أن من استكبارهم أيضا عدم الالتفات للمساكين، وعدم إطعامهم.
وسنرى مشهدا من المشاهد في سورة "عبس" \(\عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7)\)\.
الكبراء والوجهاء لا يريدون أن ينزلوا إلى مُستَوى الفقراء ومستوى البسطاء، وهذه الحالة تمنع من إطعام الطعام للفقراء، وتجعل في القلب قسوة؛ لأن إطعام المساكين هو نتيجة رقَّةٍ في القلب تُشعر الإنسان بحال هذا المسكين، وهي رقة يُنشئُها الإيمان، ويقَوِّيها، ويرَسِّخها، حين يقول –صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن بالذي يشبع، وجاره جائع". عدم إطعام المسكين يُـدخل إلى النار \(\أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)\)\.
هذه من الكليات في هذا الدين، الفقراء المستضعفون، المحتاجون، المحرومون، هؤلاء جميعا رحمهم هذا الدين، وألَحَّتْ السورة على حل مشكلتهم في البدايات، وجعلت هذا الفرض في المال، يأتي بعد الفرض في البدن، الزكاة تأتي بعد الصلاة، وفي البدايات هذه الصلاة يأتي بعدها الإطعام، أو الحض على إطعام المسكين \(\وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)\)\ [المعارج: 23 – 25] فعدم إطعامُ المسكين من مظاهر الاستكبار أيضا.
ومن أشكال الانحراف المعاصر على سبيل المثال، حفاظا على السوق لتبقى في مستوى بعينه، خيراتٌ كثيرة تُلْقى في البحر. المساكين في إفريقيا، في آسيا، كان يمكن أن يعطى لهم ذلك فيستفيدوا منه، فيشبعوا ويتمتعوا، ولكن حفاظا على السوق، وعلى مستوى الكبراء، كل ذلك يُحْرق أو يُغَرّق، فينتهي، ولا يعطى للمساكين!!!.
- المظهر الخامس: الخوض مع الخائضين في غير ما يرضي رب العالمين. لفظة الخوض في كتاب الله عز وجل تعني الشروع في أمْرٍ ليس بحميد، أمْرٍ غير حسن، \(\وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ\)عناه: نخُوض مع الخائضين في أمُور الباطل، أمُور الضلال، أمور الكفر، والأشياء التي لا ترضي الله عز وجل، الأمور التي نهى عنها الله عز وجل.
وأيضا: مصاحبةُ الفاسدين المفسدين \(\وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي\)\ [الفرقان: 27-29]، مشكل الخُلطة، مشكل المجموعة التي يخالطها العبد، فهذا الخوض مع الخائضين منهيٌّ عنه طبعا، وهو من مظاهر الاستكبار؛ لأنه يقوي تلك الجبهة، ويكثر سوادها.
- المظهر السادس: التكذيب بيوم الدين \(\وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ\)\ [المطففين: 12]؛ لأن الذي يصدِّقُ بيوم الدين يحسب له الحساب عمليا، إذا حدث هذا التصديق فإن العبد ينْتَصِفُ من نفسه؛ لأنه يضع في حسابه بيقين أنه ملاقٍ اللهَ عز وجل، سيلقى الله تعالى، وسيحاسبه على النقير والقطمير، فلذلك هؤلاء المستكبرون يُلْغون من حسابهم وجود يوم آخر، وأنهم سيحاسبُون، وأن هناك يوم دين، ويوم حساب. ويوم الخضوع، يوم الدينونة للملك الديان سبحانه وتعالى \(\وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ\)\ ظلوا على هذه الحالة حتى أتاهم اليقين.
- المظهر السابع: الإعراض بشدة، والفرار بقوة من المذكِّرين. وهذا أيضا من المظاهر التي نراها عيانا \(\وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ\)\ [الزمر: 42] إذا جاء مذكِّرٌ ليذكر مستكبرا أو جماعة من المستكبرين ما الذي يحدث؟ يقع الإعراض بشدة \(\فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ\)\ ويقع الفرارُ بقوة من هذا المذكّر \(\كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51)\)\ كأنهم الحُمر الوحْشيّة التي نُفِّرت من أسَدٍ هصُور، عندما رأت الأسد فرَّت في كل الاتجاهات، يُشَبِّهُهم الله جل وعلا بأنهم يفرُّون ممّن يذكِّرهم \(\فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ\)ع أن هذا لمصْلَحتِهم، ولنفعهم، ليس فيه شيء فيه مضرةٌ لهم، ومع ذلك \(\اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ\)\ [فاطر: 43]. يقع هذا الإعراض بشدة، والفرار بقوة من المذكرين.
هذه مظاهر الاستكبار التي ذُكرت في هذه السورة.
الهدى الخامس: من أسباب الاستكبار التي ذُكرت في هذه السورة:
- السبب الأول: المال الممدود والبنون الشهود. أي: الاعتزاز بالمال والولد والجاه: \(\وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا\)ال كثيرٌ \(\وَبَنِينَ شُهُودًا\)\أي جعلْتُ له كذلك قوَّةً بشرية حاضرة جاهزة يتقوى بها، فعنده فتنتان خطيرتان: المال والجاه.
- السبب الثاني: الأنانية الطاغية: ويظهر ذلك في قوله تعالى: \(\بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً\)\.ها هنا أيضا سببٌ من أسباب الاستكبار: الأنانية الطاغية التي ظهرت، \(\بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً\)\ فكل واحد من المستكبرين يريد أن يكون مِثْلَ الرسول؟! ويجب على الله أن ينزل عليه الصحف والرسالة!! هذه الأنانية الطاغية من مظاهر الاستكبار بصفة عامة.
- السبب الثالث: عدَمُ الخوف من الآخرة:
\(\كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ\)\لأنهم لا يومنون بها أصلا، فلذلك لا يخافون منها، فينتج عن ذلك استكبار في الأرض.
الهدى السادس: ما يعالج به الاستكبار مما ذكر في هذه السورة:
- العلاج الأول: التخويف بأهوال يوم القيامة عسى أن يتأثر المستكبرون فيرتدعون ويتوبون؛ لأن الله جل وعلا خوّف الكافرين من ذلك اليوم \(\فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)\)\ وهذا الأمر موجود في سور أخرى بتوسع، ولكن الآن بدأت الإشارة إليه بهذا الشكل.
- العلاج الثاني: التخويف بسَلْب النعم، وتعويضها بالنقم، وهي المذكورة في أول المشهد الذي يصوِّر حالة الوليد بن المغيرة \(\ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا\)\ خلقته وحده، ولم يكن معه مَالٌ، ولا ولَدٌ، ولا أيُّ شَيْء، خرج من بطن أمه وحيدا \(\ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ\)\ أنا الذي جعلت \(\وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13)\)\ حضورا دائما معه \(\وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا\)\ يسرت له كل الأمور \(\ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)\)\.
كان المطلوب أن يشكر هذه النعم فيؤمن بالحق الذي جاء من عند الله عز وجل ولا يستكبر، ولكنه لم يفعل ذلك، فيجب إذن أن يُؤاخد، وهذا هو التوجه، فالتخويف بسلْبِ النِّعم، وتعويضِها بالنِّقَم، هذا مّما يعالج به الاستكبار في مَنْ نفَعَ فيه العلاج؛ لأن العلاج قد ينفع وقد لا ينفع، ولكن الله جل جلاله يُبَيّن لنا السبل.
- العلاج الثالث: التخويف بجهنم -وهذه التي وقع عليها إلحاح كبير في السورة- التخويف بجهنم من ثلاث جهات: جهنمَّ وهي سعيرٌ يستعر، وجهنم وهي إحدى الكُبَر نذيرا للبشر، وجهنَّمُ وهي مستقرٌّ للذين سلكوا في سقر \(\سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)\)\ إلى أن قال: \(\كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ (36)\)\.
الصورة الأولى تصوِّرها وهي تستعر \(\لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29)\)\ يعني كثيرة الْحرْق؛ لأن المعتمد في فهم هذه الآية هو أنها ليست كما فهمها بعضُ العلماء: أنها تلُوح للناس، وإنما القصدُ هنا والذي عليه الجمهور هو أنَّ البَشَر هنا بمعنى البشْرَة، ولوّاحة لها تجعلها لائحة يعني مُسودَّة بسبب النار. هذا هو المعنى: يعني كثيرة الحَرْق \(\لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29)\)\ وهذا الوصف هو للنار في حالها هي.
ثم بعد ذلك يشير القرآن إلى أن سبب ذكر هذه النار، هو أنها تذكر نذيرا للبشر \(\إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)\)\.
ثم تُذْكَرُ من جهة أخرى -وهم فيها- للدّلالة على أنها جزاء المستكبرين، \(\كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)\)\.
وسبق أن لفظ "المجرمين" في سورة القلم يُقابل لفظ "المسلمين" \(\أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)\)\ يتَسَاءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر، هم الآن مستقرون فيها \(\قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ...\)\.
فالتخويف بجهنم بهذه المشاهد الثلاثة: كيف هي جهنم؟، وأنها نذير للبشر، وأن المستقرين فيها هذه هي حالهم: ماذا يقولون؟ وماذا يقال لهم؟ التخويف بها، وقد أخذت حيزا من السورة أضخم وأكبر من الأنواع الأخرى، هو نوع من العلاج.
- العلاج الرابع: ضرب الأمثال المنفِّرة من سوء الحال، وهو الوارد بوضوح في هذه الآية \(\فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51)\)\ هذا المشهد ينفِّـر من حال هؤلاء الناس، فضرب المثال في القرآن الكريم يقصد منه أن الذي يعيش تلك الحال يجب عليه أن يراجع نفسه، إذا كان لا يريد أن يكون في هذا الشكل.
- العلاج الخامس: كشف حقائق النفسيات المريضة، وهذا واضح في \(\بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53)\)\ فليس الأمر أمر إعراض في حد ذاته، أو أمْر خطأ في الشيء الذي يُدعَوْن إليه، لا! المسألة ترجع إلى مرض النفس في كل واحد منهم \(\بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ\)\كل واحد يريد أن يوتى صُحفا منشرة، فنفسُه قد تضخَّمَتْ، ويريد أن يتلقى هو الرسالة، ويخاطبه الله هو وحده، ويتلقى الوحي هو الآخر كذلك. أيضا.
\(\كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ\)\ فهذا هو سرُّ هذا الاستكبار بالدرجة الأولى. وإذا كشفت للإنسان حقائق نفْسِه فقد يراجع نفْسَه أيضا.
- العلاج السادس: تقرير هيمنة المشيئة الإلهية على كل المشيئات: عندما تنتهي السورة وينتهي الكلام نجد هذه النهاية كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ\)\ لماذا تعرضون عن التذكرة؟ الخطاب للكفار المستكبرين، لماذا تعرضون عن التذكرة؟
تعرضون عنها لأنكم ولأنكم ولأنكم... ليس الأمْر باستقلال تام منكم كما تزعمون، لو أردتم أن تتذكروا فإن ذلك لا يخرج عن مشيئة الله جل وعلا، وإذا لم تتذكروا فأنتم داخل المشيئة أيضاً، فلا يمكن أن تشاؤوا شيئا لم يشأه الله عز وجل، وهذه الهيمنة تجعل هذا المتلقِّي في القَبْضَة في جميع الأحوال. افْعَلْ ما بدا لك، فالله من ورائك محيطٌ.
تقرير هيمنة المشيئة الإلهية على كل المشيئات تجعل المستكبر يُرَاجِعُ نفسه، إلى أين يتجه؟.
- العلاج السابع: فتح الباب على مصراعيه للتوبة. والذي يشير إلى ذلك أمران:
أولا: التعبير بالتذكرة الذي أُلِحَّ عليه في الأخير \(\كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55)\)\.
ثانيا: كون الله جل وعلا \(\هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ\)\ بمعنى: هلاَّ تذكرتم واتقيتم الله فيغفر لكم، هلاَّ عُـدتم فيغفر الله جل وعلا لكم؟.
ففتح الباب على مصراعيه للتوبة من طرق علاج حال الاستكبار أيضا عسى أن يراجع المستبكر نفسه، أو جماعة من المستكبرين، ليتوبوا إلى الله عز وجل.
الهدى السابع: وظيفة المنذر التذكير، وبالقرآن أساسا يكون التذكير، فمن شاء ذكر وشكر، ومن شاء أعرض وكفر. وذلك مما يُستفاد من الآيات الأخيرة: \(\كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ\)\ هذا نفس ما يقرره الله عز وجل في أماكن أخرى \(\إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ\)\ [الشورى: 45] \(\فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)\)\ [الغاشية: 21-22] \(\وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى\)\ [الأنعام: 36].
مسألة الاهتداء إذن مرجعها إلى الله، \(\لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء\)\ [البقرة: 271].
ما الذي علينا نحن؟ علينا أن نبذل أقصى الجهد للبيان، للبلاغ، للإنذار، للتبشير، إلى غير ذلك، أي للتَّذكرة، هذه اللفظة "التذكرة" تشمل كُلَّ تلك المعاني: معنى الإنذار، ومعنى التبشير، ومعني البيان، إلى غير ذلك.. كل تلك المعاني تدخل ضمن إطار التذكرة التي هي وظيفة الرسول – صلى الله عليه وسلم-، ووظيفة من يتبع رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، ووظيفة من يقوم لينذر.
عندما ننظر إلى السورة جملة نجد أن التوجيهات الأساسية التي تلخص لنا الهدى المنهاجي في السورة هي هذه:
أولا: وجوب القيام للإنذار، وترك الادثار، على كل من قرأ باسم ربه فتبتل إليه.
فوجوب القيام للإنذار وترك الادثار هو التوجيه الأول الكبير في السورة، وهو الذي يوجد في المطلع \(\يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)\)\ فكونها جاءت بعد فواتح المزمل، وبعد فواتح العلق، تجعل هذا المعنى في غاية الوضوح: "وجوب القيام للإنذار" \(\يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)\)\ لم يبق مجال للادثار الآن، لم يبق مجال للراحة، أو حب الفراش بل \(\قُمْ فَأَنذِرْ\)\ الآن. هذا الأمر يصير واجبا خاصة على كل من قرأ باسم ربه: أي استجاب لما طلب الله منه في سورة العلق، ثم استجاب لما طلب الله منه في سورة المزمل. وعلى فرض أن عبدًا انطلق للإنذار دون أن يمُرَّ بالمرحلتين السابقتين: مرحلة العلق ومرحلة المزمل، فلن يُفْلِحَ، ولن يعرف كيف ينذر؟.
لابد من العلم الرباني الضروري الأساسي، لابد من العلم بالكليات الشرعية، هذا الذي تشير إليه فواتح سورة العلق، العلم بالله جل جلاله، والعلم بالإنسان كما تقدم.
ولابد من سير إلى الله عز وجل، ولا بُد من صحبة لهذا القرآن كما ينبغي في جوف الليل، وفي غير جوف الليل، استعدادا لحمل القول الثقيل، كما تشير إليه فواتح المزمل.
الآن في فواتح المدثر نجد شرح \(\إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً\)\ هذا القول الثقيل هو \(\قُمْ فَأَنذِرْ\)\، من قبلُ ما كان مطلوبا منه أن ينذر.
طُلِبَ منه أن يقْرَأُ فَقَرَأ.
ثم طُلِب منه أن يقوم الليل فقام الليل، وذكر ربه... إلى آخر العزائم الخمس التي سبق الكلام عنها، فعل ذلك، وحصل التبتل، وحصل التوكل.
أما الآن فقم فأنذر، بمعنى أن النموذج صار صالحًا للتَّعْميم.
ثانيا: من نهض للإنذار فعليه التسلح بالزاد الذي هُدِي إليه خَيْـرُ العباد: وهو الآيات الخمس (من الآية الثالثة إلى الآية السابعة) التي تبتدئ بتكبير ربنا سبحانه وتعالى وتنتهي بالصَّبْر لربِّنَا سبحانه وتعالى، بمعنى أن ذلك الزاد وتلك الصفات ضرورية، والهدى المنهاجي مركّز بكثافة بالغة في فواتح السورة، فمن نهض للإنذار فعليه التسلح بهذا الزاد الذي هُدي إليه خيْرُ العباد.
ثالثا: المنذر مذكر: ومَتَى بَدَأ الإنْذَار بدأ الاسْتِكْبَار.
وخير علاج للاستكبار إبلاغ التخويف بسقر \(\أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28)\)\ فمن شاء تذَكَّر، ومن شاء تَأَخَّر \(\وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)\)\.