التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَمَا يَذۡكُرُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ هُوَ أَهۡلُ ٱلتَّقۡوَىٰ وَأَهۡلُ ٱلۡمَغۡفِرَةِ} (56)

52

تعليق على تعبير

{ وما يذكرون إلا أن يشاء الله }

ولقد يبدو فيما جاء في الآية الخامسة من إناطة تذكر الناس بمشيئة الله نقض أو تحديد لما جاء في الآية [ 37 ] من تقرير المشيئة للناس إطلاقاً . ولقد قال بعض العلماء والمفسرين : إن هذه الآية وما في بابها مثل آية سورة الإنسان هذه : { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } بسبيل تقرير أن الناس إنما يشاءون بقوة المشيئة التي خلقها الله فيهم . وقال آخرون : إن إناطة مشيئة الناس بمشيئة الله تعالى السابقة على مشيئتهم تعني مفهومها الظاهر إطلاقاً فلا يشاءون إلاّ ما شاء الله{[2345]} . وقد كانت هذه الآية وما يماثلها مدار جدل بين علماء المذاهب الكلامية بسبب ما يبدو من التعارض بينها وبين الآيات الأخرى التي تقرر قابلية الاختيار والمشيئة في الناس إطلاقاً .

ونقول أولا : إن النظم القرآني جرى أحياناً على نسبة كل شيء من أفعال العباد الواقعة أو المتوقعة إلى الله تعالى ، وعلى جعل كل شي منها منوطاً بمشيئته مع قيام قرائن في الآيات نفسها أو في غيرها ، على أنها من كسب العباد ومشيئتهم المباشرة فيما يترافق معها أو يترتب عليها من تثريب وتنديد ووعيد لما يكون ضلالات وانحرافات وتنويه ووعد جميل لما يكون استقامة وحقاً وهدى . غير أنه جرى أيضا وفي الأعم الأغلب على نسبة الأفعال والمشيئة إلى العباد مما هو مثبوت في مختلف السور بكثرة تغني عن التمثيل بحيث يسوغ القول : إن الأسلوب الأول ينبغي أن يؤول على ضوء ما فيه وما في القرآن من قرائن ولا يصح أن يوقف عند كل عبارة لحدتها ؛ لأن في ذلك تعريضاً للقرآن للتعارض والاختلاف مما يجب تنزيهه عن ذلك ، ولاسيما إن في القرآن حلاً لما يبدو من توهم في ذلك على ما شرحناه في سياق جملة { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } [ 31 ] وإن القول إن الناس يشاءون بقوة المشيئة التي أودعها الله فيهم هو المتسق مع تقرير المشيئة للعباد وتقرير قابلية الاختيار والكسب فيهم مما انطوى في الآيات السابقة وآيات كثيرة أخرى ، وهو المتسق مع روح الآية نفسها التي جاءت بعد الآية التي تقرر المشيئة للناس مباشرة . ثم هو المتسق مع حكمة إرسال الرسل ويوم الجزاء الذي يوفى فيه الناس جزاء أعمالهم التي اكتسبوها بقوة هذه المشيئة والقابلية للاختيار والكسب التي أودعها الله فيهم بمقتضى إرادته وحكمته ومشيئته الأزلية . وعبارة الآيات ومعظم آيات القرآن التي تُنسب الأفعال والتفكير للإنسان من الأدلة التي تكاد تكون حاسمة على ذلك . ويتبادر لنا إلى هذا أنه أُريد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتم بموقف الإعراض والعناد والمناوأة والتكذيب الذي وقفه الجاحدون . وقد تكرر مثل ذلك في مواضع كثيرة في القرآن مثل آية سورة فاطر هذه : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( 8 ) } ، وآية القصص هذه : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( 56 ) } وآية سورة الأنعام هذه : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 35 ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ( 36 ) } بحيث تبدو بذلك حكمة التنزيل في الأسلوب . ويلحظ أن الآيات نسبت اكتساب الهدى والاستجابة إلى أصحابها مما قد يكون فيه دليل على صحة تأويلنا ، والله أعلم .

/خ56


[2345]:- انظر تفسيرها في تفسير أبي السعود والنيسابوري.