{ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } أي : هل جوزوا من جنس عملهم ؟
فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلال ، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة ، ورأوهم{[1390]} في العذاب والنكال ، الذي هو عقوبة الغي والضلال .
نعم ، ثوبوا ما كانوا يفعلون ، عدلًا من الله وحكمة ، والله عليم حكيم .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله : { هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } .
والاستفهام للتقرير . وقوله : { ثوب } من التثويب والإِثابة ، أى المجازاة .
يقال : ثوب فلان فلانا وأثابه ، بمعنى جازاه المجازاة اللائقة به .
والمعنى : لقد جوزى الكفار بالجزاء المناسب لتهكمهم بالمؤمنين فى الدنيا ، فقد أنزلنا بهم ما يستحقونه من عقاب أليم ، جزاء وفاقا .
وجاء الجزاء بأسلوب الاستفهام ، لتأكيد هذا الجزاء ، حتى لكأن المخاطب هو الذى نطق بهذا الجزاء العادل الذى استحقه الكافرون . ولبيان أن عدالة الله - تعالى - تقتص من المعتدين مهما طالت بهم الحياة .
والتعبير بثوب - مع أنه أكثر ما يستعمل فى الخير - إنما هو من باب التهكم بهم ، كما فى قوله - تعالى - : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من عباده المؤمنين الصادقين .
والقرآن يتوجه بالسخرية العالية مرة أخرى وهو يسأل :
( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ? ) .
أجل ! هل ثوبوا ? هل وجدوا ثواب ما فعلوا ? وهم لم يجدوا( الثواب )المعروف من الكلمة . فنحن نشهدهم اللحظة في الجحيم ! ولكنهم من غير شك لاقوا جزاء ما فعلوا . فهو ثوابهم إذن . وياللسخرية الكامنة في كلمة الثواب في هذا المقام !
ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته - مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا - كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه . فنجد أن هذه الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري ، كما أنه فن عال في العلاج الشعوري . فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق . وكان ربهم لا يتركهم بلا عون ، من تثبيته وتسريته وتأسيته .
وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين ، فيه بلسم لقلوبهم . فربهم هو الذي يصف هذه المواجع . فهو يراها ، وهو لا يهملها - وإن أمهل الكافرين حينا - وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه . إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون . وكيف يؤذيهم المجرمون . وكيف يتفكه بآلامهم ومواجعهم المتفكهون . وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون ! إن ربهم يرى هذا كله . ويصفه في تنزيله . فهو إذن شيء في ميزانه . . . وهذا يكفي ! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة .
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع . قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذنوب . ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة ، تحسه وتقدره ، وتستريح إليه وتستنيم !
ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها ، ونعيمها في جناته ، وكرامتها في الملأ الأعلى . على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم ، مع الإهانة والترذيل . . تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل . وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين . وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف . وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة ، وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم .
ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة ، وأذاهم البالغ ، وسخريتهم اللئيمة . . الجنة للمؤمنين ، والجحيم للكافرين . وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل . . وهذا كان وحده الذي وعد به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المبايعين له . وهم يبذلون الأموال والنفوس !
فأما النصر في الدنيا ، والغلب في الأرض ، فلم يكن أبدا في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت . .
لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجو إلا رضوان الله . قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال ، بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للجزاء . وموعدا كذلك للفصل بين الحق والباطل . . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة ، مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ؛ ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه !
وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة ، تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدرا من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !
وقوله : هَلْ ثُوّبَ الكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ يقول تعالى ذكره : هل أثيب الكفار وجُزُوا ثواب ما كانوا في الدنيا يفعلون بالمؤمنين من سخريتهم منهم ، وضحكهم بهم ، بضحك المؤمنين منهم في الاَخرة ، والمؤمنون على الأرائك ينظرون ، وهم في النار يعذّبون .
و ثُوّب فعل من الثواب والجزاء ، يقال منه : ثوّب فلان فلانا على صنيعه ، وأثابه منه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد هَلْ ثُوّبَ الكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال : جُزي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان : هَلْ ثُوّبَ الكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ حين كانوا يسخرون .