{ قُلْ } لهم ، لائمًا على فرارهم ، ومخبرًا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئًا { لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم ، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم .
والأسباب تنفع ، إذا لم يعارضها القضاء والقدر ، فإذا جاء القضاء والقدر ، تلاشى كل سبب ، وبطلت{[695]} كل وسيلة ، ظنها الإنسان تنجيه .
{ وَإِذَا } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل ، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } متاعًا ، لا يسوى فراركم ، وترككم أمر اللّه ، وتفويتكم على أنفسكم ، التمتع الأبدي ، في النعيم السرمدي .
ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين ، فوبختهم على سوء فهمهم ، وعلى جبنهم وخورهم ، وعلى سلاطة ألسنتهم . . فقال - تعالى - : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار . . . . مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنافقين : { لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل } ، لأن كل إنسان لا بد له من نهاية تنتهى عندها حياته ، سواء أكانت تلك النهاية عن طريق القتل بالسيف ، أم عن طريق الموت على الفراش .
وما دام الأمر كذلك ، فعلى هؤلاء المنافقين أن يعلموا : أن الجبن لا يؤخر الحياة ، وأن الشجاعة لا تقدمها عن موعدها . وصدق الله إذ يقول : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } وقوله : { إِن فَرَرْتُمْ . . . } جوابه محذوف لدلالة ما سبق عليه . أى : إن فررتم لن ينفعكم فراركم .
وقوله : { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } تذييل قصد به زجرهم عن الجبن الذى استولى عليهم .
أى : إن فراركم من الموت أو القتل ، إن نفعكم - على سبيل الفرض - لفترة من الوقت ، فلن ينفعكم طويلا ، لأنكم لن تتمتعوا بالحياة بعد هذا الفرار إلا وقتا قليلا ، ثم ينزل بكم قضاء الله - تعالى - الذى لا مرد لكم منه ، فما تفرون منه هو نازل بكم قطعا .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاّ تُمَتّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوَءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء الذين يستأذنوك في الانصراف عنك ويقولون إن بيوتنا عورة : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْل يقول : لأن ذلك ، أو ما كتب الله منهما واصل إليكم بكل حال ، كرهتم أو أحببتم . وإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً يقول : وإذا فررتم من الموت أو القتل لم يزد فراركم ذلك في أعماركم وآجالكم ، بل إنما تمتعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم ، ثم يأتيكم ما كتب لكم وعليكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ منَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ ، وَإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً وإنما الدنيا كلها قليل .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، عن ربيع بن خيثم وَإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً قال : إلى آجالهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، عن ربيع بن خيثم وَإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً قال : ما بينهم وبين الأجل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خيثم مثله ، إلاّ أنه قال : ما بينهم وبين آجالهم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي رزين ، أنه قال في هذه الاَية فَلْيَضْحَكُوا قَليلاً وَلْيَبْكوا كَثِيرا قال : ليضحكوا في الدنيا قليلاً ، وليبكوا في النار كثيرا . وقال في هذه الاَية : وَإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً قال : إلى آجالهم . أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خيثم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خيثم وَإذَا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً قال : الأجل . ورفع قوله تُمَتّعُونَ ولم ينصب بإذن للواو التي معها ، وذلك أنه إذا كان قبلها واو ، كان معنى «إذا » التأخير بعد الفعل ، كأنه قيل : ولو فرّوا لا يمتّعون إلاّ قليلاً إذا ، وقد يُنصب بها أحيانا ، وإن كان معها واو ، لأن الفعل متروك ، فكأنها لأوّل الكلام .
أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن يخاطبهم بتوبيخ ، فأعلمهم بأن الفرار لا ينجيهم من القدر ، وأعلمهم أنهم لا يمتعون في تلك الأوطان كثيراً ، بل تنقطع أعمارهم في يسير من المدة ، و «القليل » الذي استثناه هي مدة الآجال قال الربيع بن خثيم{[9474]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.