قوله تعالى : { إن شر الدواب } ، أي : شر من دب على وجه الأرض من خلق الله . قوله تعالى : { عند الله الصم البكم } ، عن الحق فلا يسمعونه ولا يقولونه .
قوله تعالى : { الذين لا يعقلون } أمر الله عز وجل ، سماهم دواب لقلة انتفاعهم بعقولهم ، كما قال تعالى : { أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] قال ابن عباس : هم نفر من بني عبد الدار بني قصي ، كانوا يقولون : نحن صم ، بكم ، عمي عما جاء به محمد ، فقتلوا جميعاً بأحد ، وكانوا أصحاب اللواء ، لم يسلم منهم إلا رجلان ، مصعب بن عمير ، وسويبط ابن حرملة .
يقول تعالى : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ من لم تفد فيهم الآيات والنذر ، وهم الصُّمُّ عن استماع الحق الْبُكْمُ عن النطق به . الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ما ينفعهم ، ويؤثرونه على ما يضرهم ، فهؤلاء شر عند اللّه من جميع{[339]} الدواب ، لأن اللّه أعطاهم أسماعا وأبصارا وأفئدة ، ليستعملوها في طاعة اللّه ، فاستعملوها في معاصيه وعدموا - بذلك - الخير الكثير ، فإنهم كانوا بصدد أن يكونوا من خيار البرية .
فأبوا هذا الطريق ، واختاروا لأنفسهم أن يكونوا من شر البرية ، والسمع الذي نفاه اللّه عنهم ، سمع المعنى المؤثر في القلب ، وأما سمع الحجة ، فقد قامت حجة اللّه تعالى عليهم بما سمعوه من آياته ، وإنما لم يسمعهم السماع النافع ، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته .
ثم وصف - سبحانه - الكافر والمنافقين وأشباههم وصفاً يحمل العقلاء على النفور منهم ، فقال - تعالى - : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ } .
والدواب : جمع دابة وهى كل ما يدب على الأرض . قال - تعالى - : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ . . } قال الجمل : " وإطلاق الدابة على الإِنسان لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا ، وفى المصباح : الدابة كل حيوان في الأرض مميزا أو غير مميز " .
وقد روى أن هذه الآيات نزلت في نفر من بنى عبد الدار ، كانوا يقولون : نحن صم بكم عما جاء به محمد ، فقتلوا جميعا يوم بدر .
وهذا لا يمنع أن الآية الكريمة يشمل حكمها جميع المشركين والمنافقين ، إذ العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .
والمعنى : إن شر ما يدب على الأرض { عِندَ الله } أى : في حكمه وقضائه ، وهم أولئك : { الصم } عن سماع الحق { البكم } عن النطق به { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } أي لا يعلقون التمييز بينه وبين الباطل .
ووصفهم - سبحانه - بذلك مع أنهم يسمعون وينطقون ، لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس ، بل استعملوها فيما يضر ويؤذى ، فكان وجودها فيهم كعدمها .
وقدم الصمم على البكم ، لأن صممهم عن سماع الحق متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له ، كما أن النطق به من فروع سماعه .
وقوله { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } تحقيق لكمال سوء حالهم ، لأن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما فهم بعض الأمور . . . أما إذا كان بجانب صممه وبكمه فاقد العقل ، فإنه في هذه الحالة يكون قد بلغ الغاية في سوء الحال . .
قال صاحب المنار : وقوله : { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } أى : فقدوا فضيلة العقل الذي يميز بين الحق والباطل والخير والشر ، إذ لو عقولا لطلبوا ، ولو طلبوا لسمعوا وميزوا ولو سمعوا لنطقوا وبينوا ، وتذكروا وذكروا . . فهم لفقدهم منفعة العقل والسمع والنطق صاروا كالفاقدين لهذه المشاعر والقوى . . بل هم شر من ذلك لأنهم اعطيت لهم المشاعر والقوى فأفسدوها على أنفسهم لعدم استعمالها فيما خلقها الله لأجله ، فهم كما قال الشاعر :
خُلِقوا ، وما خُلِقوا لمكرمة . . . فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رُزِقوا وما رزقوا سماح يد . . . فكأنهم رزقوا وما رزقوا
ولم يصفهم هنا بالعمى كما وصفهم في آية الأعراف وآيتى البقرة ، لأن المقام هنا مقام تعريض بالذين ردوا دعوة الإِسلام ، ولم يهتدوا بسماع آيات القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللّهِ الصّمّ الْبُكْمُ الّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إن شرّ ما دبّ على الأرض من خلق الله عند الله الذين يصغون عن الحق لئلا يستمعوه فيعتبروا به ويتعظوا به وينكصون عنه إن نطقوا به ، الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه ، فيستعملوا بهما أبدانهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ شَرّ الدّوَابّ عِنْدَ الله قال : الدوابّ : الخلق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : وكانوا يقولون : إنا صمّ بكم عما يدعونا إليه محمد ، لا نسمعه منه ، ولا نجيبه به بتصديق . فقتلوا جميعا بأُحد ، وكانوا أصحاب اللواء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الصمّ البكم : الذين لا يعقلون ، قال : الذين لا يتبعون الحقّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ شَرّ الدّوَابّ عِنْدَ اللّهِ الصّمّ البُكْمُ الّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وليس بالأصمّ في الدنيا ولا بالأبكم ، ولكن صمّ القلوب وبكمها وعميها . وقرأ : فإنّها لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي فِي الصّدُورِ .
واختلف فيمن عني بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عني بها نفر من المشركين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عباس : الصمّ البكم الذين لا يعقلون : نفر من بني عبد الدار ، لا يتبعون الحقّ .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الصّمّ البُكُمُ الّذِينَ لا يَعْقِلُونَ قال : لا يتبعون الحقّ . قال : قال ابن عباس : هم نفر من بني عبد الدار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
وقال آخرون : عني بها المنافقون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّ شَرّ الدّوَابّ عِنْدَ اللّهِ الصّمّ البُكْمُ الّذين لا يَعْقِلُونَ : لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النعمة والسعة .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال بقول ابن عباس ، وأنه عني بهذه الاَية مشركو قريش ، لأنها في سياق الخبر عنهم .
المقصود بهذه الآية أن يبين أن هذه الصنيفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله عز وجل ، وأنها أخس المنازل لديه ، عبر ب { الدواب } ليتأكد ذمهم وليفضل عليهم الكلب العقور والخنزير ونحوهما من السبع ، والخمس الفواسق وغيرها ، و { الدواب } كل ما دب فهو جميع الحيوان بجملته ، وقوله { الصم البكم } عبارة عما في قلوبهم وقلة انشراح صدورهم وإدراك عقولهم ، فلذلك وصفهم بالصم والبكم وسلب العقل ، وروي أن هذه الآية نزلت في طائفة من بني الدار{[5274]} وظاهرها العموم فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بهذه الأوصاف .