{ إنه على رجعه لقادر } قال مجاهد : على رد النطفة في الإحليل . وقال عكرمة : على رد الماء في الصلب الذي خرج منه . وقال الضحاك : إنه على رد الإنسان ماءً كما كان من قبل لقادر . وقال مقاتل بن حيان : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة ، وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء لقادر حتى لا يخرج وقال قتادة : إن الله تعالى على بعث الإنسان وإعادته بعد الموت قادر . وهذا أولى الأقاويل لقوله :{ يوم تبلى السرائر }
وقوله - سبحانه - : { إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ . يَوْمَ تبلى السرآئر . فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِر } . بيان لكمال قدرته - تعالى- وأنه كما أنشأ الإِنسان من ماء مهين ، قادر على إعادته إلى الحياة بعد موته . والضمير فى قوله : { إنه } يعود إلى الله - عز وجل - لأن الخالق للإِنسان من ماء دافق هو الله - تعالى - .
والضمير فى قوله " رجعه " يعود إلى الإِنسان المخلوق .
وقوله : { تبلى } من البلاء بمعنى الاختبار والامتحان . ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين } والمراد بقوله { تبلى } هنا : الكشف والظهور .
و { السرائر } جمع سريرة ، وهى ما أسره الإِنسان من أقوال وأفعال ، والظرف " يوم " متعلق بقوله : { رجعه } .
أى : إن الله - تعالى - الذى قدر على خلق الإِنسان من ماء دافق .
يخرج من بين الصلب والترائب . . لقادر - أيضا - على إعادة خلق هذا الإِنسان بعد موته ، وعلى بعثه من قبره للحساب والجزاء ، يوم القيامة ، يوم تكشف المكنونات ، وتبدو ظاهرة للعيان ، وترفع الحجب عما كان يخفيه الإِنسان فى دنياه من عقائد ونيات وغيرهما .
وفى هذا اليوم لا يكون للإِنسان من قوة تحميه من الحساب والجزاء ، ولا يكون له من ناصر ينصره من بأس الله - تعالى - أو من مدافع يدافع عنه .
قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يقول تعالى ذكره : إن هذا الذي خلقكم أيها الناس من هذا الماء الدافق ، فجعلكم بشرا سويّا ، بعد أن كنتم ماء مدفوقا ، على رجعه لقادر .
واختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله : عَلى رَجْعِهِ على ما هي عائدة ، فقال بعضهم : هي عائدة على الماء . وقالوا : معنى الكلام : إن الله على ردّ النطفة في الموضع التي خرجت منه لَقادِرٌ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن عكرِمة ، في قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال : إنه على رَدّه في صُلْبه لقادر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن عكرِمة في قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال : للصّلب .
حدثني عُبيد بن إسماعيل الهباريّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال : على أن يرد الماء في الإحليل .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ الوشاء ، قال : حدثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم ، عن ورقاء ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن مجاهد ، في قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال : على ردّ النطفة في الإحليل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال : في الإحليل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال : ردّه في الإحليل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه على ردّ الإنسان ماء كما كان قبل أن يخلقه منه . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّهُ عَلى رَجْعه لَقادِرٌ إن شئتُ رددتُه كما خلقته من ماء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه على حبس ذلك الماء لقادر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال : على رجع ذلك الماء لقادر ، حتى لا يخرج ، كما قدر على أن يخلق منه ما خلق ، قادر على أن يرجعه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنه قادر على رجع الإنسان من حال الكبر إلى حال الصغر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن مقاتل بن حَيّان ، عن الضحاك قال : سمعته يقول في قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يقول : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصّبا ، ومن الصبا إلى النطفة .
وعلى هذا التأويل تكون الهاء في قوله : عَلى رَجْعِهِ من ذكر الإنسان .
وقال آخرون ممن زعم أن الهاء للإنسان معنى ذلك أنه على إحيائه بعد مماته لقادر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لقادِرٌ إن الله تعالى ذكره على بعثه وإعادته قادر .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال معنى ذلك : إن الله على ردّ الإنسان المخلوق من ماء دافق من بعد مماته حيا ، كهيئته قبل مماته لقادر .
وإنما قلت هذا أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لقوله : يَوْمَ تُبْلَى السّرائِرُ فكان في إتباعه قوله : إنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ نبأ من أنباء القيامة ، دلالة على أن السابق قبلها أيضا منه ، ومنه يَوْمَ تُبْلَى السّرائِرُ يقول تعالى ذكره : إنه على إحيائه بعد مماته لقادر ، يوم تُبلى السرائر فاليوم من صفة الرجع ، لأن المعنى : إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر .
وعُنِي بقوله : يَوْمَ تُبْلى السّرَائِرُ يوم تُخْتَبرُ سرائر العباد ، فيظهر منها يومئذٍ ما كان في الدنيا مستخفيا عن أعين العباد ، من الفرائض التي كان الله ألزمه إياها ، وكلّفه العمل بها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن عبد الله بن صالح ، عن يحيى بن أيوب ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح ، في قوله : يَوْمَ تُبْلَى السّرائِرُ قال : ذلك الصوم والصلاة وغُسْل الجنابة ، وهو السرائر ولو شاء أن يقول : قد صُمْتُ وليس بصائم ، وقد صلّيتُ ولم يصلّ ، وقد اغتسلت ولم يغتسل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَوْمَ تُبْلَى السّرائِرُ إن هذه السرائر مختبرة ، فأسِرّوا خيرا وأعلنوه إن استطعتم ، ولا قوّة إلا بالله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان يَوْمَ تُبْلَى السّرائِرُ قال : تُخْتَبر .
وقوله تعالى : { إنه على رجعة لقادر } الضمير في { إنه } لله تعالى ، واختلف المفسرون في الضمير في { رجعه } : فقال قتادة وابن عباس : هو على { الإنسان } على أي على رده حياً بعد موته ، وقال الضحاك : هو عائد على { الإنسان } لكن المعنى يرجعه ماء كما كان أولاً ، وقال الضحاك أيضاً : يرد من الكبر إلى الشباب ، وقال عكرمة ومجاهد : هو عائد على الماء ، أي يرده في الإحليل ، وقيل في الصلب ، والعامل في { يوم } على هذين القولين الأخيرين فعل مضمر تقديره اذكر { يوم تبلى السرائر } ، وعلى القول الأول ، وهو أظهر الأقوال وأبينها ، اختلفوا في العامل في { يوم } ، فقيل : العامل { ناصر } ، من قوله تعالى : { ولا ناصر } ، وقيل العامل الرجع في قوله تعالى : { على رجعه } ، قالوا وفي المصدر من القوة بحيث يعمل وإن حال خبر ان بينه وبين معموله ، وقال الحذاق العامل فعل مضمر تقديره : { إنه على رجعه لقادر } ، فرجعه { يوم تبلى السرائر } ، وكل هذه الفرق فسرت من أن يكون العامل «قادر » ، لأن ذلك يظهر منه تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده ، وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب ، جاز أن يكون العامل «قادر » ، وذلك أنه قال : { إنه على رجعه لقادر } ، أي على الإطلاق أولاً وآخراً وفي كل وقت ، ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصل إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه