مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجۡعِهِۦ لَقَادِرٞ} (8)

( ورابعها ) : وهو أن الاستدلال بهذا الباب ، كما أنه يدل قطعا على وجود الصانع المختار الحكيم ، فكذلك يدل قطعا على صحة البعث والحشر والنشر ، وذلك لأن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين ، بل في جميع العالم ، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنسانا سويا ، وجب أن يقال : إنه بعد موته وتفرق أجزائه لابد وأن يقدر الصانع على جمع تلك الأجزاء وجعلها خلقا سويا ، كما كان أولا ولهذا السر لما بين تعالى دلالته على المبدأ ، فرع عليه أيضا دلالته على صحة المعاد فقال : { إنه على رجعه لقادر } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : الضمير في أنه للخالق مع أنه لم يتقدم ذكره ، والسبب فيه وجهان ( الأول ) : دلالة خلق عليه ، والمعنى أن ذلك الذي خلق قادر على رجعه ( الثاني ) : أنه وإن لم يتقدم ذكره لفظا ، ولكن تقدم ذكر ما يدل عليه سبحانه ، وقد تقرر في بدائة العقول أن القادر على هذه التصرفات ، هو الله سبحانه وتعالى ، فلما كان ذلك في غاية الظهور كان كالمذكور .

المسألة الثانية : الرجع مصدر رجعت الشيء إذا رددته ، والكناية في قوله على رجعه إلى أي شيء ترجع ؟ فيه وجهان ( أولهما ) : وهو الأقرب أنه راجع إلى الإنسان ، والمعنى أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء وجب أن يقدر بعد موته على رده حيا ، وهو كقوله تعالى : { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } وقوله : { وهو أهون عليه } ( وثانيهما ) : أن الضمير غير عائد إلى الإنسان ، ثم قال مجاهد : قادر على أن يرد الماء في الإحليل ، وقال عكرمة والضحاك : على أن يرد الماء في الصلب . وروي أيضا عن الضحاك أنه قادر على رد الإنسان ماء كما كان قبل ، وقال مقاتل بن حيان ، إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة ، واعلم أن القول الأول أصح ، ويشهد له قوله : { يوم تبلى السرائر } أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة