قوله :{ يا أيها الرسل } قال الحسن و مجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة : أراد به محمداً صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة . وقال بعضهم : أراد به عيسى . وقيل : أراد به جميع الرسل عليهم السلام { كلوا من الطيبات } أي الحلالات ، { واعملوا صالحاً } الصلاح هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة . { إني بما تعملون عليم* }
{ 51 - 56 } { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ }
هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات ، التي هي الرزق الطيب الحلال ، وشكر الله ، بالعمل الصالح ، الذي به يصلح القلب والبدن ، والدنيا والآخرة . ويخبرهم أنه بما يعملون عليم ، فكل عمل عملوه ، وكل سعي اكتسبوه ، فإن الله يعلمه ، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله ، فدل هذا على أن الرسل كلهم ، متفقون على إباحة الطيبات من المآكل ، وتحريم الخبائث منها ، وأنهم متفقون على كل عمل صالح وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات ، واختلفت بها الشرائع ، فإنها كلها عمل صالح ، ولكن تتفاوت بتفاوت الأزمنة .
ولهذا ، الأعمال الصالحة ، التي هي صلاح في جميع الأزمنة ، قد اتفقت عليها الأنبياء والشرائع ، كالأمر بتوحيد الله ، وإخلاص الدين له ، ومحبته ، وخوفه ، ورجائه ، والبر ، والصدق ، والوفاء بالعهد ، وصلة الأرحام ، وبر الوالدين ، والإحسان إلى الضعفاء والمساكين واليتامى ، والحنو والإحسان إلى الخلق ، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة ، ولهذا كان أهل العلم ، والكتب السابقة ، والعقل ، حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، يستدلون على نبوته بأجناس ما يأمر به ، وينهى عنه ، كما جرى لهرقل وغيره ، فإنه إذا أمر بما أمر به الأنبياء ، الذين من قبله ، ونهى عما نهوا عنه ، دل على أنه من جنسهم ، بخلاف الكذاب ، فلا بد أن يأمر بالشر ، وينهى عن الخير .
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء الأنبياء ، بتوجيه خطاب إلى الرسل جميعاً ، أمرهم فيه بالأكل من الطيبات ، وبالتزود من العمل الصالح ، فقال - تعالى - : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
ووجه - سبحانه - الخطاب إلى الرسل جميعاً ، مع أن الموجود منهم عند نزول الآية واحد فقط ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم للدلالة على أن كل رسول أمر فى زمنه بالأكل من الطيبات التى أحلها - تعالى - وبالعمل الصالح .
وفى اية غشارة إلى أن المداومة على الأكل من الطيبات التى أحلها الله ، والتى لا شبهة فيها ، له أثره فى مواظبة الإنسان على العمل الصالح .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يأمر الله - تعالى - عباده المرسلين بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذاعلى أن الحلال عون على العمل الصاحل ، فقام الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذا أتم قيام ، وجمعوا بين كل خير . قولاً وعملاً . ودلالة ونصحاً .
ثم ساق - رحمه الله - عدداً من الأحاديث فى هذا المعنى منها : أن أم عبد الله - بنت شداد بن أوس - " بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك مع طول النهار وشدة الحر . فرد إليها رسولها : أنّى كانت لك الشاة ؟ - أى : على أية حال تملكينها - فقالت : اشتريتها من مالى ، فشرب منه ، فلما كان من الغد أتته أم عبد الله فقالت له : يا رسول الله . بعثتث إليك بلبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إلىّ الرسول فيه ؟ فقال لها : " بذلك أمرت الرسل . أن لا تأكل إلا طيبًا ولا تعمل إلا صالحاً " " .
ومنها : ما ثبت فى صحيح مسلم ، عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً } وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه من حرام . ومشربه من حرام ، وملبسه من حرام ، وغذى بالحرام . يمد يديه إلى السماء : يارب يا رب فأنى يستحاب لذلك " .
وقوله - سبحانه - : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } تحذير من مخالفة ما أمر به - تعالى .
أى : إنى بما تعملون - أيها الرسل وأيها الناس - عليم فأجازيكم على هذا العمل بما تستحقون .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وقلنا لعيسى : يا أيها الرسل كلوا من الحلال الذي طيّبه الله لكم دون الحرام ، وَاعْمَلُوا صَالِحا تقول في الكلام للرجل الواحد : أيها القوم كفوا عنّا أذاكم ، وكما قال : الّذِينَ قَالَ لهم النّاسُ ، وهو رجل واحد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني عبيد بن إسحاق الضبيّ العطار ، عن حفص بن عمر الفزاريّ ، عن أبي إسحاق السبيعيّ ، عن عمرو بن شرحبيل : يا أيّها الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّباتِ وَاعْمَلُوا صَالحا قال : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه .
وقوله : إنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يقول : إني بأعمالكم ذو علم ، لا يخفى عليّ منها شيء ، وأنا مجازيكم بجميعها ، وموفّيكم أجوركم وثوابكم عليها ، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.