السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (51)

وقد اختلف في المخاطب بقوله تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } على وجوه ؛ أحدها : أنه محمد صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة ، ثانيها : أنه عيسى عليه السلام ؛ لأنه روي أنّ عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه ، ثالثها : أنه كل رسول خوطب بذلك ، ووصي به لأنه تعالى في الأزل متكلم آمر ناهٍ ، ولا يشترط في الأمر وجود المأمورين بل الخطاب أزلاً على تقدير وجود المخاطبين ، فقول البيضاوي : لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أنّ كلاً منهم خوطب به في زمانه ، تبع فيه «الكشاف » ، فإن المعتزلة أنكروا قدم الكلام فحملوا الآية على خلاف ظاهرها ، وأنت خبير بأنّ عدم اشتراط ما ذكر إنما هو في التعلق المعنوي لا التنجيزي الذي الكلام فيه ، فإنه مشروط فيه ذلك ، وإنما خاطب جميع الرسل بذلك ليعتقد السامع أنّ أمراً خوطب به جميع الرسل ووصوا به حقيق أنّ يؤخذ به ويعمل عليه ، وهذا كما قال الرازي أقرب ؛ لأنه روي «عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم ، فرد صلى الله عليه وسلم إليها وقال : من أين لك هذا ؟ فقالت : من شاة لي ، ثم رده صلى الله عليه وسلم وقال : من أين هذه الشاة ؟ فقالت : اشتريتها من مالي ، فأخذه ثم إنها جاءته فقالت : يا رسول الله لم رددته ؟ فقال صلى الله عليه وسلم بذلك أمرت الرسل أنّ لا تأكل إلا طيباً ، ولا تعمل إلا صالحاً » ، والمراد بالطيب الحلال ، وقيل : طيبات الرزق الحلال الصافي القوام ، فالحلال هو الذي لا يعصى الله تعالى فيه ، والصافي هو الذي لا ينسى الله فيه ، والقوام هو الذي يمسك النفس ويحفظ العقل ، وقيل : المراد بالطيب المستلذ أي : ما تستلذه النفس من المأكل والمشرب والفواكه ، ويشهد له مجيئه على عقب قوله تعالى : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } [ المؤمنون ، 50 ] ، واعلم أنه سبحانه وتعالى كما قال للمرسلين : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } قال للمؤمنين : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ، ودل سبحانه وتعالى على أنّ الحلال عون على الطاعة بقوله تعالى : { واعملوا صالحاً } فرضاً ونفلاً سراً وجهراً غير خائفين من أحد غير الله تعالى ، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله تعالى : { إني بما } أي : بكل شيء { تعملون عليم } أي : بالغ العلم فأجازيكم عليه ،