القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً طَهُوراً * لّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيّ كَثِيراً } .
يقول تعالى ذكره : والله الذي أرسل الرياح الملقحة بُشْرا : حياة أو من الحيا والغيث الذي هو منزله على عباده وأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً طَهُورا يقول : وأنزلنا من السحاب الذي أنشأناه بالرياح من فوقكم أيها الناس ماء طهورا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتا يعني أرضا قَحِطة عذية لا تُنبت . وقال بَلْدَةً مَيْتا ولم يقل ميتة ، لأنه أريد بذلك لنحيي به موضعا ومكانا ميتا وَنُسْقِيَهُ من خلقنا أنْعَاما من البهائم وَأنَاسِيّ كَثِيرا يعني الأناسيّ : جمع إنسان وجمع أناسي ، فجعل الياء عوضا من النون التي في إنسان ، وقد يجمع إنسان : إناسين ، كما يجمع النَشْيان : نشايين . فإن قيل : أناسيّ جمع واحده إنسي ، فهو مذهب أيضا محكي ، وقد يجمع أناسي مخففة الياء ، وكأن من جمع ذلك كذلك أسقط الياء التي بين عين الفعل ولامه ، كما يجمع القرقور : قراقير وقراقر . ومما يصحح جمعهم إياه بالتخفيف ، قول العبرب : أناسية كثيرة .
في قوله { لنحي به بلدة ميتاً } إيماء إلى تقريب إمكان البعث .
و { نُسقيه } بضم النون مضارع أسقى مثل الذي بفتح النون فقيل هما لغتان يقال : أسقى وسَقى . قال تعالى : { قالتا لا نَسقي } [ القصص : 23 ] بفتح النون . وقيل : سقى : أعطى الشراب ، وأسقى : هيَّأ الماء للشرب . وهذا القول أسدّ لأن الفروق بين معاني الألفاظ من محاسن اللغة فيكون المعنى هيَّأناه لشرب الأنعام والأناسي فكل من احتاج للشرب شرب منه سواء من شرب ومن لم يشرب .
و { أنعاماً } مفعول ثان ل { نسقيه } . وقوله : { مما خلقنا } حال من { أنعاماً وأناسي } . و ( مِن ) تبعيضية . و ( مَا ) موصولة ، أي بعض ما خلقناه ، والموصول للإيماء إلى علة الخبر ، أي نسقيهم لأنهم مخلوقات . ففائدة هذا الحال الإشارة إلى رحمة الله بها لأنها خلقه . وفيه إشارة إلى أن أنواعاً أخرى من الخلائق تُسقى بماء السماء ، ولكن الاقتصار على ذكر الأنعام والأناسي لأنهما موقع المنة ، فالأنعام بها صلاح حال البَادين بألبانها وأصوافها وأشعارها ولُحومها ، وهي تشرب من مياه المطر من الأحواض والغدران .
والأناسيّ : جمع إنسيّ ، وهو مرادف إنسان . فالياء فيه ليست للنسب . وجُمع على فَعالِيّ مثل كُرسي وكَراسِي .
ولو كانت ياؤه نَسب لَجُمع على أنَاسِيَةٍ كما قالوا : صيرفي وصيارفة . ووصف الأناسيّ ب { كثيراً } لأن بعض الأناسيّ لا يشربون من ماء السماء وهم الذين يشربون من مياه الأنهار كالنيل والفرات ، والآبار والصهاريج ، ولذلك وصف العرب بأنهم بنو ماء السماء . فالمنة أخص بهم ، قال زيادة الحارثي{[296]} :
ونحن بنو ماء السماء فلا نرى *** لأنفسنا من دون مملكةٍ قصراً{[297]}
وفي أحاديث ذكر هاجر زوج إبراهيم عليه السلام قال أبو هريرة « فتلك أمّكم يا بني ماءِ السماء » يعني العرب . وماء المطر لنقاوته التي ذكرناها صالح بأمعاء كل الناس وكل الأنعام دون بعض مياه العيون والأنهار .
ووصف أناسي وهو جمع بكثير وهو مفرد لأن فعيلاً قد يراد به المتعدد مثل رفيق وكذلك قليل قال تعالى : { واذكروا إذ كنتم قليلاً } [ الأعراف : 86 ] .
تقديم ذكر الأنعام على الأناسيّ اقتضاه نسج الكلام على طريقة الأحكام في تعقيبه بقوله : { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا } ، ولو قدم ذكر { أناسيَّ } لتفكك النظم . ولم يقدم ذكر الناس في قوله تعالى : { متاعاً لكم ولأنعامكم } في سورة النازعات ( 33 ) لانتفاء الداعي للتقديم فجاء على أصل الترتيب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لنحيي به} المطر {بلدة ميتا} ليس فيه نبت فينبت بالمطر {ونسقيه} بالرياح والمطر {مما خلقنا أنعاما} في تلك البلدة {وأناسي كثيرا} في تلك البلدة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتا" يعني أرضا قَحِطة عذية لا تُنبت. وقال بَلْدَةً مَيْتا ولم يقل ميتة، لأنه أريد بذلك لنحيي به موضعا ومكانا ميتا.
"وَنُسْقِيَهُ من خلقنا أنْعَاما" من البهائم "وَأنَاسِيّ كَثِيرا" يعني الأناسيّ: جمع إنسان...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} وهي التي لا عمارة فيها ولا زرع، وإحياؤها يكون بنبات زرعها وشجرها. فكما أن الماء يطهر الأبدان من الأحداث والأنجاس كذلك الماء يطهر الأرض من القحط والجدب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قلت: لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء، وصفه بالطهور إكراماً لهم، وتتميماً للمنة عليهم، وبياناً أن من حقهم حين أراد الله لهم الطهارة وأرادهم عليها أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم، وأن يربؤوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم..
اعلم أن الله تعالى ذكر من منافع الماء أمرين: أحدهما: ما يتعلق بالنبات، والثاني: ما يتعلق بالحيوان؛ أما أمر النبات فقوله: {لنحيي به بلدة ميتا} وفيه سؤالات:
لم قال {لنحيي به بلدة} ميتا ولم يقل ميتة؟
الجواب: لأن البلدة في معنى البلد في قوله: {فسقناه إلى بلد ميت}.
ما المراد من حياة البلد وموتها؟
الجواب: الناس يسمون ما لا عمارة فيه من الأرض مواتا، وسقيها المقتضي لعمارتها إحياء لها...
لم خص الإنسان والأنعام ههنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء؟ الجواب: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام لأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها فكأن الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم بسقيهم.
ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهما بالكثرة؟
الجواب: معناه أن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار ومنافع المياه، فهم في غنية في شرب المياه عن المطر، وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وذلك قوله: {لنحيي به بلدة ميتا} يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء ويحتمل في كثير أن يرجع إلى قوله: {ونسقيه} لأن الحي يحتاج إلى الماء حالا بعد حال وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين، حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان إلى الضرر أقرب، والحيوان يحتاج إليه حالا بعد حال ما دام حيا.
لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي؟
الجواب: لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا لأرضهم ومواشيهم فقد ظفروا أيضا بسقياهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي: أرضا قد طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء. فلما جاءها الحيا عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان، كما قال تعالى: {فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]. {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي: وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة، لشربهم وزروعهم وثمارهم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28] وقال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت هذه الأفعال دالة على البعث لكن بنوع خفاء، أتبعها ثمرة هذا الفعل دليلاً واضحاً على ذلك، فقال معبراً بالإحياء لذلك، معللاً للطهور المراد به البعد عن جميع ما يدنسه من ملوحة أو مرارة أو كبرتة ونحو ذلك مما يمنع كمال الانتفاع به: {لنحيي به} أي بالماء.
ولما كان المقصود بإحياء الأرض بالنبات إحياء البلاد لإحياء أهلها قال: {بلدة} ولو كان ملحاً أو مراً أو مكبرتاً لم تكن فيه قوة الإحياء. ولما كره أن يفهم تخصيص البلاد، أجري الوصف باعتبار الموضع ليعم كل مكان فقال: {ميتاً} أي بما نحدث فيه من النبات بعد أن كان قد صار هشيماً ثم تراباً، ليكون ذلك آية بينة على قدرتنا على بعث الموتى بعد كونهم تراباً. ولما كان في مقام العظمة، بإظهار القدرة، زاد على كونه آية على البعث بإظهار النبات الذي هو منفعة للرعي منفعة أخرى عظيمة الجدوى في الحفظ من الموت بالشرب كما كانت آية الإحياء حافظة بالأكل فقال: {ونسقيه} أي الماء وهو من أسقاه -مزيد سقاه، وهما لغتان. قال ابن القطاع: سقيتك شراباً وأسقيتك، والله تعالى عباده وأرضه كذلك. {مما خلقنا} أي بعظمتنا. ولما كانت النعمة في إنزال الماء على الأنعام وأهل البوادي ونحوهم أكثر، لأن الطير والوحش تبعد في الطلب فلا تعدم ما تشرب، خصها فقال: {أنعاماً} وقدم النبات لأن به حياة الأنعام، والأنعام لأن بها كمال حياة الإنسان، فإذا وجد ما يكفيها من السقي تجزّأ هو بأيسر شيء، وأتبع ذلك قوله: {وأناسيّ كثيراً} أي بحفظنا له في الغدران لأهل البوادي الذين يبعدون عن الأنهار والعيون وغيرهم ممن أردنا، لأنه تعالى لا يسقي جميع الناس على حد سواء، ولكن يصيب بالمطر من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، ويسقي بعض الناس من غير ذلك، ولذا نكر المذكورات- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء -وتلا هذه الآية... وكان السر في ذلك أنه كان من حقهم أن يطهروا ظواهرهم وبواطنهم، ويطهروا غيرهم ليناسبوا حاله في الطهورية، فلما تدنسوا بالقاذورات تسببوا في صرفه عنهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 48]
ثم ظاهرة الرياح المبشرة بالمطر وما يبثه من حياء: وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيي به بلدة ميتا، ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا.. والحياة على هذه الأرض كلها تعيش على ماء المطر إما مباشرة، وإما بما ينشئه من جداول وأنهار على سطح الأرض. ومن ينابيع وعيون وآبار من المياه الجوفية المتسربة إلى باطن الأرض منه، ولكن الذين يعيشون مباشرة على المطر هم الذين يدركون رحمة الله الممثلة فيه إدراكا صحيحا كاملا. وهم يتطلعون إليه شاعرين بأن حياتهم كلها متوقفة عليه، وهم يترقبون الرياح التي يعرفونها تسوق السحب، ويستبشرون بها؛ ويحسون فيها رحمة الله -إن كانوا ممن شرح الله صدورهم للإيمان. والتعبير يبرز معنى الطهارة والتطهير: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) وهو بصدد ما في الماء من حياة. (لنحيي به بلدة ميتا، ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) فيلقي على الحياة ظلا خاصا. ظل الطهارة. فالله سبحانه أراد الحياة طاهرة نقية وهو يغسل وجه الأرض بالماء الطهور الذي ينشى ء الحياة في الموات ويسقي الأناسي والأنعام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
في قوله {لنحيي به بلدة ميتاً} إيماء إلى تقريب إمكان البعث...
{مما خلقنا} حال من {أنعاماً وأناسي}. و (مِن) تبعيضية. و (مَا) موصولة، أي بعض ما خلقناه، والموصول للإيماء إلى علة الخبر، أي نسقيهم لأنهم مخلوقات. ففائدة هذا الحال الإشارة إلى رحمة الله بها لأنها خلقه. وفيه إشارة إلى أن أنواعاً أخرى من الخلائق تُسقى بماء السماء، ولكن الاقتصار على ذكر الأنعام والأناسي لأنهما موقع المنة، فالأنعام بها صلاح حال البَادين بألبانها وأصوافها وأشعارها ولُحومها، وهي تشرب من مياه المطر من الأحواض والغدران..