اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِّنُحۡـِۧيَ بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗا وَنُسۡقِيَهُۥ مِمَّا خَلَقۡنَآ أَنۡعَٰمٗا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرٗا} (49)

وقوله : «لِنُحْيِيَ بِهِ » فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق بالإنزال . والثاني : وهو صعب أنه متعلق ب ( طهور ){[36340]} .

ووصف «بَلْدَةً » ب «مَيِّت » وهي صفة للمذكر{[36341]} ، لأنها بمعنى البلد .

قوله : «وَنُسْقِيَهُ » العامة على ضمّ النون ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيوة{[36342]} وابن أبي عبلة بفتحها{[36343]} ، وقد{[36344]} تقدم أنه قرئ بذلك في النحل{[36345]} والمؤمنون{[36346]} وتقدم الكلام ( على ذلك ){[36347]} .

قوله : «مِمَّا خَلَقْنَا » يجوز أن يتعلق «مِنْ » ب «نُسْقِيَهُ » ، وهي لابتداء الغاية ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من «أَنْعَاماً »{[36348]} ، ونكرت الأنعام والأناسي ، ( قال الزمخشري ){[36349]} : لأن علية الناس وجلهم مجتمعون بالأودية{[36350]} والأنهار ، فيهم غنية عن سقي الماء وأعقابهم وهم كثير منهم لا يعيشهم إلا ما ينزل{[36351]} الله من رحمته وسقيا ( سمائه{[36352]} ){[36353]} .

قوله : «وَأَنَاسِيَّ » فيه وجهان :

أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه جمع إنسان ، والأصل إنسان ، وأناسين ، فأبدلت النون ياء ، وأدغمت فيها الياء قبلها نحو ظربان وظرابي{[36354]} .

والثاني : وهو قول الفراء{[36355]} والمبرد{[36356]} والزجاج{[36357]} أنه جمع إنسي . وفيه نظر ، لأن فعالي إنما يكون جمعاً لما فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كرسي وكراسي ، فلو أريد ب ( كرسي ) النسب لم يجز جمعه على كراسي{[36358]} ، ويبعد أن يقال : إن الياء في إنْسِيّ ليست للنسب{[36359]} ، وكان حقه أن يجمع على ( أناسية ) نحو مهالبة في المهلبي ، وأزارقة في الأزرقي{[36360]} . وقرأ يحيى بن الحارث الذماري{[36361]} والكسائي{[36362]} في رواية «وأناسِيَ » بتخفيف الياء{[36363]} . قال الزمخشري : بحذف ياء أفاعيل ، كقولك ( أناعم في أناعيم{[36364]} ){[36365]} . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي . قلت : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم ، ولأنهم إذا ظفروا بسقيا أرضهم ، وسقي أنعامهم لم يعدموا سقياهم{[36366]} فإن قيل : لم خص الإنسان والأنعام هاهنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء ؟ فالجواب : لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ، لأن حوائج الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان{[36367]} الإنعام عليهم ( بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم ){[36368]} بسقيهم{[36369]} . وقال : «أَنَاسِيَّ كَثيراً » ولم يقل : كثيرين ، لأنه قد جاء فعيل مفرداً ويراد به الكثرة كقوله : { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً }{[36370]} [ النساء : 69 ] .


[36340]:انظر التبيان 2/987.
[36341]:في ب: وهو وصف المذكر.
[36342]:في ب: أبو حيان. وهو تحريف.
[36343]:انظر المختصر (105) تفسير ابن عطية 11/49، البحر المحيط 6/505.
[36344]:قد: سقط من ب.
[36345]:يشير إلى قوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه} [النحل: 66]. وذكر هناك: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بضم النون هنا وفي المؤمنون، والباقون بفتح النون فيهما. انظر اللباب 5/206.
[36346]:يشير إلى قوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها} [المؤمنون: 21].
[36347]:ما بين القوسين سقط من ب.
[36348]:انظر التبيان 2/987.
[36349]:ما بين القوسين سقط من ب.
[36350]:في الكشاف: وجلهم فينحون بالقرب من الأدوية.
[36351]:في ب: ما وينزل.
[36352]:الكشاف 3/100.
[36353]:ما بين القوسين في ب: سما.
[36354]:قال سيبويه: (وقالوا: أناسية لجمع إنسان) الكتاب 3/621، وقال السيرافي موجها كلام سيبويه: (في هذا الجمع وجهان: أحدهما: أن يجعلوا الهاء عوضا من إحدى ياءي أناسي. وتكون الياء الأولى منقلبة من الألف التي بعد السين، والثانية من النون. والثاني أن تحذف الألف والنون في إنسان تقديرا، ويؤتى بالياء التي تكون في تصغيره، إذا قالوا: أنيسيان، وكأنهم في الجمع الياء التي يريدونها في التصغير فيصير أناسي، ويدخلون الهاء لتحقيق التأنيث) هامش الكتاب 3/621. والفراء جوز هذا الوجه. انظر معاني القرآن 2/299، ونسب ابن الأنباري هذا الوجه إلى الفراء وضعفه بقوله: (لأنه لو كان ذلك قياسا لكان يقال في جمع سرحان سراحي، وذلك لا يجوز) البيان 2/206. ووزن إنسان على مذهب البصريين (فعلان) لأنه مأخوذ من الإنس وعلى مذهب الكوفيين (إفعان)، لأن أصل إنسان: إنسيان من النسيان وحذف منه الياء لكثرة الاستعمال. الإنصاف 2/809 – 812.
[36355]:جوز الفراء الوجهين، قال: (وقوله: "وأناسي كثيرا" واحدهم إنسي وإن شئت جعلته إنسانا ثم جمعته أناسي فتكون الياء عوضا من النون) معاني القرآن 2/269.
[36356]:قال المبرد: أناسية جمع إنسية، والهاء عوض من الياء المحذوفة، لأنه كان يجب أناسين بوزن زناديق وفرازين، وأن الهاء في زنادقة وفرازنة إنما هي بدل الياء، وأنها لما حذفت للتخفيف عوضت منها الهاء. اللسان (أنس).
[36357]:جوز الزجاج الوجهين قال: (وقوله: "وأناسي كثيرا" أناسي جمع إنسي مثل كرسي وكراسي، ويجوز أن يكون جمع إنسان وتكون الياء بدلا من النون، الأصل أناسين بالنون مثل سراحين) معاني القرآن وإعرابه 4/71.
[36358]:فعالي من أمثلة جميع الكثرة، وهو يطرد في كل اسم ثلاثي ساكن العين مزيد آخره ياء مشددة لغير تحديد نسب نحو كرسي وكراسي، وكركي وكراكي فـ (أناسي) جمع إنسان لا إنسي، وأصله أناسين فأبدلوا النون ياء كما قالوا: ظربان: ظرابي وفي ذلك قال ابن مالك: واجعل فعالي لغير ذي نسب *** جدد كالكرسي تتبع العرب انظر شرح الأشموني 4/144 – 145.
[36359]:في ب: في النسي للنسب.
[36360]:وذلك أن التاء تلحق الجمع الأقصى لزوما إذا كان المفرد منسوبا، لتكون التاء عوضا عن ياء النسب كقولهم: أشاعثة ومغاربة جمع أشعثي وجواز إذا كان المفرد أعجميا معربا كطيالسة وجواربة جمع طيلس وجورب أو تعويضا عن ياء فعاليل كزنادقة في زناديق، أو تأكيدا لمعنى الجمع كتاء ملائكة. انظر التبيان في تصريف الأسماء 162 – 163.
[36361]:تقدم.
[36362]:في ب: راوي الكسائي.
[36363]:انظر المختصر (105) والبحر المحيط 6/505.
[36364]:الكشاف 3/100.
[36365]:ما بين القوسين في ب: أناغم وأناغيم.
[36366]:انظر الكشاف 3/100.
[36367]:في ب: وكان.
[36368]:ما بين القوسين سقط من ب.
[36369]:انظر الكشاف 3/100، الفخر الرازي 24/91.
[36370]:[النساء: 69]. وانظر الفخر الرازي 24/91.