{ كأنه } رد الكناية إلى اللفظ ، { جمالة } قرأ حمزة والكسائي وحفص : { جمالة } على جميع الجمل ، مثل حجر وحجارة ، وقرأ يعقوب بضم الجيم بلا ألف ، أراد : الأشياء العظام المجموعة ، وقرأ الآخرون : " جمالات " بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير : هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض ، حتى تكون كأوساط الرجال ، { صفر } جمع الأصفر ، يعني لون النار ، وقيل : الصفر معناه : السود ، لأنه جاء في الحديث أن شرر نار جهنم أسود كالقير ، والعرب تسمي سود الإبل صفراً لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة كما يقال لبيض الظباء : أدم ، لأن بياضها يعلوه كدرة .
وقوله : جِمالاتٌ صُفْرٌ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : كأن الشرر الذي ترمي به جهنم كالقصر جِمالات سود : أي أينق سود وقالوا : الصفر في هذا الموضع ، بمعنى السود . قالوا : وإنما قيل لها صفر وهِي سود ، لأن ألوان الإبل سود تضرب إلى الصفرة ، ولذلك قيل لها صُفْر ، كما سميت الظباء أدما ، لما يعلوها في بياضها من الظلمة . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عمرو البصري ، قال : حدثنا بدل بن المحبّر ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، عن داود بن أبي هند ، عن الحسن كأنّهُ جِمالَةٌ صُفْرٌ قال : الأينق السود .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ كالنّوق السود الذي رأيتم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : نوق سود .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، جميعا عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : هي الإبل .
قال : ثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : كالنوق السود الذي رأيتم .
وقال آخرون : بل عُني بذلك : قُلُوس السفن ، شبّه بها الشرر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس كأنّهُ جِمالات صُفْرٌ فالجِمالات الصفر : قلوس السفن التي تجمع فتوثق بها السفن .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سعيد ، عن عبد الرحمن بن عابس ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : قُلُوس سفن البحر يجمل بعضها على بعض ، حتى تكون كأوساط الرجال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبد الرحمن بن عابس ، قال : سمعت ابن عباس سُئل عن جِمالاتٌ صُفْرٌ فقال : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عابس ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد الله ، قال : حدثنا هلال بن خباب ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : جِمالاتٌ صَفْرٌ قال : قُلوس الجِسر .
حدثني محمد بن حويرة بن محمد المنقري ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد الله القطان ، قال : حدثنا هلال بن خَبّاب ، عن سعيد بن جُبير ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير كأنّهُ جِمالات صُفْرٌ قال : الحبال .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن عبد الله ، عن ابن عباس كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : قلوس سفن البحر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : حبال الجسور .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كأنه قطع النّحاس . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ يقول : قطع النحاس .
وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال : عُنِي بالجمالات الصفر : الإبل السود ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، وأن الجِمالات جمع جِمال ، نظير رِجال ورِجالات ، وبُيوت وبُيوتات .
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «جِمالاتٍ » بكسر الجيم والتاء على أنها جمع جِمال وقد يجوز أن يكون أريد بها جمع جِمالة ، والجمالة جمع جَمَل كما الحجارة جمع حَجَر ، والذّكارة جمع ذَكَر . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : كأنه جِمالَةٌ بكسر الجيم على أنها جمع جمل جُمع على جمالة ، كما ذكرت مِن جمع حجَر حِجارة . ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «جُمالاتٌ » بالتاء وضمّ الجيم كأنه جمع جُمالة من الشيء المجمل .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن الحسين المعلم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس .
والصواب من القول في ذلك ، أن لقارىء ذلك اختيارَ أيّ القراءتين شاء من كسر الجيم وقراءتها بالتاء وكسر الجيم ، وقراءتها بالهاء التي تصير في الوصل تاء ، لأنهما القراءتان المعروفتان في قرّاء الأمصار فأما ضم الجيم فلا أستجيزه لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه .
واختلف الناس في «الجمالات » ، فقال جمهور من المفسرين : هو جمع جمال على تصحيح البناء كرجال ورجالات ، وقال آخرون أراد ب «الصفر » السود ، وأنشد على ذلك بيت الأعشى : [ الخفيف ]
تلك خيلي منه ، وتلك ركابي*** هن صفر أولادها كالزبيب{[11554]}
وقال جمهور الناس : بل «الصفر » الفاقعة لأنها أشبه بلون الشرر بالجمالات ، وقرأ الحسن «صُفُر » بضم الصاد والفاء ، وقال ابن عباس وابن جبير : «الجمالات » قلوس السفن{[11555]} وهي حبالها العظام إذا جمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام ، وقال ابن عباس : «الجمالات » قطع النحاس الكبار وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «جِمالة » بكسر الجيم لحقت التاء جمالاً لتأنيث الجمع فهي كحجر وحجارة ، وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن والأعمش : «جُمالة » بضم الجمي ، وقرأ باقي السبعة والجمهور وعمر بن الخطاب «جمالات » على ما تفسر بكسر الجيم ، وقرأ ابن عباس أيضاً وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم «جُمالات » بضم الجيم ، واختلف عن نافع وأبي جعفر وشيبة وكان ضم الجيم فيهما من الجملة لا من الجمل وكسرها من الجمل لا من الجملة .
وقوله : { كأنه جِمالات صفر } تشبيه له في حجمه ولونه وحركته في تطايره بجمالات صفر . وضمير { كأنه } عائد إلى شرر .
والجِمالات : بكسر الجيم جمع جِمالة ، وهي اسم جمع طائفة من الجمال ، أي تُشبه طوائف من الجمال متوزعة فرقاً ، وهذا تشبيه مركب لأنه تشبيه في هيئة الحجم مع لونه مع حركته . والصُفرة : لون الشرر إذا ابتعد عن لهيب ناره .
وقرأ الجمهور { جِمالات } بكسر الجيم وألف بعد اللام فهو جمع جمالة . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلفٌ { جِمالة } بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جَمَل مثل حَجَر وحِجَارة .
وقرأه رُويس عن يعقوب { جُمالات } بضم الجيم وألف بعد اللام جمع جُمالة بالضم وهي حبل تشدّ به السفينة ، ويُسمى القَلْس ( بقاف مفتوحة ولام ساكنة ) والتقدير : كأنّ الواحدة منها جُمالة ، و { صفر } على هذه القراءة نعت ل { جمالات } أو ل ( شرر ) .
قال صاحب « الكشاف » : وقال أبو العلاء ( يعني المعري ) في صفة نار قوم مدحهم بالكرم :
حَمْرَاءَ ساطعةَ الذوائب في الدُّجَى *** ترمي بكُل شَرارة كطِرَاف
شبه الشرارة بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة وكأنّه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن ولتبَجحه بما سُوِّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله : « حَمْراء » توطئةً لها ومناداة عليها وتنبيهاً للسامعين على مكانها ، ولقد عَمِي جمع الله له عَمَى الدارين عن قوله عز وعلا : { كأنَّه جمالات صفر } فإنه بمنزلة قوله كبيتتٍ أحمر وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيهاً من جهتين من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء فأبْعَدَ الله إغرابه في طِرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه اه .
وأقول : هذا الكلام ظن سوء بالمعري لم يُشمَّ من كلامه ، ولا نسبه إليه أحد من أهل نبزه وملامه ، زاد به الزمخشري في طنبور أصحاب النقمة ، لنبز المعري ولمزه نغمة .
قال الفخر : كانَ الأولى لصاحب « الكشاف » أن لا يذكر ذلك ( أي لأنه ظن سوءاً بلا دلِيل ) .
وقال الطيبي : وليس كذلك لأنه لا يخفى على مثل المعري : أن الكلام بآخره لأن الله شبّه الشرارة : أولاً حين تنفصل عن النار بالقصر في العظم ، وثانياً حين تأخذ في الارتفاع والانبساط فتنشقّ عن أعداد لا نهاية لها بالجمالات في التفرق واللون والعِظَم والثقل ، ونُظر في ذلك إلى الحيوان وأن تلك الحركات اختيارية وكل ذلك مفقود في بيته .