الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كَأَنَّهُۥ جِمَٰلَتٞ صُفۡرٞ} (33)

قوله : { جِمَالَةٌ } : قرأ الأخَوان وحَفْصٌ " جِمالَةٌ " . والباقون " جِمالات " . فالجِمالَةُ فيها وجهان ، أحدُهما : أنَّها جمعٌ صريحٌ ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ . يُقال : جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو : ذَكَر وذِكار وذِكارة ، وحَجَر وحِجارة . والثاني : أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة ، قاله أبو البقاء ، والأولُ قولُ النُّحاةِ . وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل " جِمالة " هذه ، وأَنْ يكونَ جمعاً ل جِمال ، فيكون جمعَ الجمعِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل جَمَل المفردِ كقولهم : " رجِالات قريش " كذا قالوه . وفيه نظرٌ ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ ، إلاَّ إذا لم تُكَسَّرْ . فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ . قالوا : ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه :

إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ *** ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ

فجمع " بُوقاً " على " بُوقات " مع قولِهم : " أَبْواق " ، فكذلك جِمالات مع قولهم : جَمَل وجِمال . على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك ، ويَجْعَلُ نحو " : حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً ، وإنْ لم يُكَسَّرْ .

وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء ، بخلافٍ عنهم ، كذلك ، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ . وقيل : قُلوس الجسورِ ، الواحدةِ " جُمْلة " لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال . وفيها وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ " جُمالات " جمعَ جُمال ، وجُمال جَمْعَ جُمْلة ، كذا قال الشيخ ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ . والثاني : أنَّ " جُمالات " جمعُ جُمالة قاله الزمخشري ، وهو ظاهرٌ . وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ " جُمالة " بضمِّ الجيم ، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً .

قوله : { صُفْرٌ } صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة ؛ لأنَّه : إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ . والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء . والحسنُ بضمِّها ، وكأنَّه إتْباعٌ . وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ . قال الزمخشريُّ : " وقيل : صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة . وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ :

دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ *** بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى

وقال أبو العلاء المعري :

حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى *** تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ

فشبَّهها/ بالطِّراف ، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن . ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه : " حمراءُ " توطئةً لها ومناداةً عليها ، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها . ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمى الدَّارَيْن عن قولِه عزَّ وجلَّ : " كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ " فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر . وعلى أنَّ في التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين : مِنْ جهةِ العِظَمِ ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ ، وفي التشبيه بالجِمالات وهي القُلُوسُ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ : الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ " انتهى . وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ : " شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان " قلت : الأَفْدانُ : القصورُ ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة :

فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها *** فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ