القول في تأويل قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّهُ مَن تَوَلاّهُ فَأَنّهُ يُضِلّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ } .
يقول تعالى ذكره : قُضي على الشيطان فمعنى : «كُتِبَ » ههنا قُضِي ، والهاء التي في قوله «عليه » من ذكر الشيطان . كما :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : كُتِبَ عَلَيْهِ أنّهُ مَنْ تَوَلاّهُ قال : كُتب على الشيطان ، أنه من اتبع الشيطان من خلق الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : كُتِبَ عَلَيْهِ أنّهُ مَنْ تَوَلاّهُ قال : الشيطان اتبعه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد أنّهُ مَنْ تَوَلاّهُ ، قال : اتبعه .
وقوله : فأنّهُ يُضِلّهُ يقول : فإن الشيطان يضله ، يعني : يضلّ من تولاه . والهاء التي في «يضله » عائدة على «من » التي في قوله : مَنْ تَوَلاّهُ وتأويل الكلام : قُضِي على الشيطان أنه يضلّ أتباعه ولا يهديهم إلى الحقّ . وقوله : ويَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السّعِيرِ يقول : ويَسُوقُ مَنْ اتّبَعَهُ إلى عذاب جهنم الموقدة وسياقه إياه إليه بدعائه إلى طاعته ومعصيته الرحمن ، فذلك هدايته من تبعه إلى عذاب جهنم .
{ كتب عليه } على الشيطان . { أنه من تولاه } تبعه والضمير للشأن . { فإنه يضله } خبر لمن أو جواب له ، والمعنى كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه ، وقرئ بالفتح على تقدير فشأنه أنه يضله لا على العطف فإنه يكون بعد تمام الكلام . وقرئ بالكسر في الموضعين على حكاية المكتوب أو إضمار القول أو تضمين الكتب معناه . { ويهديه إلى عذاب السعير } بالحمل على ما يؤدي إليه .
والضمير في { عليه } عائد على الشيطان قاله قتادة ويحتمل أن يعود على المجادل و { أنه } في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله و { أنه } الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها وقيل هي مكررة للتأكيد فقط وهذا معترض بأن الشيء لا يؤكد إلا بعد تمامه وتمام «أن » الأولى إنما هو بصلتها في قوله { السعير } وكذلك لا يعطف ولسيبويه في مثل هذا { أنه } بدل ، وقيل { أنه } خبر ابتداء محذوف تقديره فشأنه أنه يضله وقدره أبو علي فله أن يضله .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر لي أن الضمير في { أنه } الأولى للشيطان وفي الثانية لمن الذي هو المتولي ، وقوله { يهديه } بمعنى يدله على طريق ذلك وليست بمعنى الإرشاد على الإطلاق ، وقرأ أبو عمرو «إنه من تولاه فإنه يضله » بالكسر فيهما .
جملة { كتب عليه أنه من تولاه } إلى آخرها صفة ثانية ل { شيطان مريد } [ الحج : 3 ] ، فالضمير المجرور عائد إلى { شيطان . وكذلك الضمائر في أنه من تولاه فأنه } .
وأما الضميران البارزان في قوله { يضله ويهديه إلى عذاب السعير } فعائدان إلى ( مَن ) الموصولة ، أي يضل الشيطان مُتَوَليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير .
واتفقت القراءات العشر على قراءة { كُتب } بضم الكاف على أنه مبني للنائب . واتفقت أيضاً على فتح الهمزتين من قوله تعالى : { أنه من تولاه فأنه يضله } .
والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم ، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير ، فأطلق على لزوم ذلك فعل { كتب عليه } أي وجب عليه ، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة . قال الحارث بن حِلّزة :
وهل يَنْقُضُ ما في المهارق الأهْوَاءُ
والضمير في { أنه } عائد إلى { شيطان } [ الحج : 3 ] وليس ضمير شأن لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل { كُتب ، } إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة ، والمصدران المنسبكان من قوله { أنه من تولاه } وقوله { فأنه يضله } نائب فعل { كتب } ومفرع عليه بفاء الجَزاء ، أي كتب عليه إضلال من تولاه . والتولي : اتّخاذ ولي ، أي نصير ، أي من استنصر به .
و ( مَن ) موصولة وليست شرطية لأن المعنى على الإخبار الثابِت لا على التعليق بالشرط . وهي مبتدأ ثان ، والضمير المستتر في قوله { تولاه } عائد إلى ( مَن ) الموصولة . والضمير المنصوب البارز عائد إلى { شيطان } [ الحج : 3 ] ، أي أن الذي يتخذ الشيطان ولياً فذلك الشيطان يضله .
والفاء في قوله { فأنه يضله } داخلة على الجملة الواقعة خبراً عن ( من ) الموصولة تشبيهاً لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشَبَه الموصول بالشرط قصداً لتقوية الإخبار . والمصدر المنسبك من قوله { فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبراً عن ( مَن ) الموصولة . والتقدير : فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير . وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلَي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ . والتقدير : ثابتان .
ويجوز أن تجعل الفاء في قوله { فأنه يضله } فاء تفريع ويجعلَ ما بعدها معطوفاً على { من تولاه } ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع . والتقدير : كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتولّيه وترتب إيصاله متوليَه إلى عذاب السعير .
هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات .
واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في [ سورة براءة : 63 ] { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها } لأن مقتضى فعل العلم غيرُ مَقتضى فعل ( كُتب ) . فلذلك كانت ( مَن ) في قوله من يحادِدِ } شرطية لا محالة وكان الكلام جارياً على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله { أنه } ضمير شأن .
ولما كان الضلال مشتهراً في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل { يضله } لظهور المعنى .
وذُكِر متعلق فعل { يهديه } وهو { إلى عذاب السعير } لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهَدْي إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب .
وفي الجمع بين { يضله ويهديه } محسن الطِباق بالمضادة . وقد عدّ من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } النضر بن الحارث . وقيل نزلت فيه ؛ كان كثير الجدل يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت تراباً . وعُد منهم أيضاً أبو جهل ، وأبيُّ بن خَلف . ومن قال : إن المقصود بقوله { من يجادل } معيناً خص الآية به ، ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.