الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كُتِبَ عَلَيۡهِ أَنَّهُۥ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُۥ يُضِلُّهُۥ وَيَهۡدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} (4)

قوله : { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ } : قرأ العامَّةُ " كُتِبَ " مبنياً للمفعولِ وفتحَ " أنَّ " في الموضعين . وفي ذلك وجهان ، أحدُهما : أنَّ الضميرَ وما في حَيِّزه في محلِّ رفعٍ لقيامِه مقامَ الفاعل . فالهاءُ في " عليه " وفي " أنه " يعودان على " مَنْ " المتقدمةِ . و " مَنْ " الثانية يجوز أن تكونَ شرطيةً والفاءُ جوابُها ، وأن تكونَ موصولةً ، والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ لشَبَهِ المبتدأ بالشرط . وفُتِحَتْ " أنَّ " الثانيةُ لأنها وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، تقديره : فشأنهُ وحالُه أنه يُضِلُّه . أو يُقَدَّر " فَأَنَّه " مبتدأ ، والخبر محذوفٌ أي : فله أنَّه يَضِلُّه .

الثاني : قال الزمخشري : " ومَنْ فَتَحَ فلأنَّ الأولَ فاعلُ " كُتِب " ، والثاني عَطْفٌ عليه " . قال الشيخ : " وهذا لا يجوزُ ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَ " فأنَّه " عطفاً على " أنَّه " بقيت " أنَّه " بلا استيفاءِ خبرٍ ، لأنَّ " مَنْ تَوَلاَّه " " مَنْ " فيه مبتدأةٌ . فإنْ قَدَّرْتَها موصولةً فلا خبرَ لها حتى تَسْتقلَّ خبراً ل " أنه " . وإنْ جَعَلْتَها شرطيةً فلا جوابَ لها ؛ إذ جُعِلَتْ " فأنَّه " عَطْفاً على " أنه " .

قلت : وقد ذَهبَ ابنُ عطية رحمه الله إلى مثلِ قولِ الزمخشري فإنه قال : " وأنَّه " في موضعِ رفعٍ على المفعولِ الذي : لم يُسَمَّ فاعلُه و " أنَّه " الثانيةُ عطفٌ على الأولى مؤكدةً مثلَها " . وهذا رَدٌّ واضحٌ .

وقُرِىء " كَتَبَ " مبنياً للفاعلِ أي : كَتَبَ اللهُ . ف " أنَّ " وما في حَيِّزها في محل نصب على المفعول به ، وباقي الآية على ما تقدم .

وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو " إنه " " فإنه " بكسرِ الهمزتين . وقال ابن عطية : " وقرأ أبو عمروٍ " إنَّه " " فإنه " بالكسر فيهما " ، وهذا يُوْهم أنَّه مشهورٌ عنه وليس كذلك . وفي تخريجِ هذه القراءةِ/ ثلاثةُ أوجهٍ ذكرها الزمخشري وهي : أَنْ تكونَ على حكايةِ المكتوبِ كما هو ، كأنه قيل : كُتِب عليه هذا اللفظُ ، كما تقول : كُتِبَ عليه : إنَّ الله هو الغني الحميد . الثاني أن يكونَ على إضمار " قيل " . الثالث : أنَّ " كُتِبَ " فيه معنى قيل . قال الشيخ : أمَّا تقديرُ " قيل " يعني فيكون " عليه " في موضعِ مفعولِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه و " أنه مَنْ تولاَّه " الجملةُ مفعولٌ لم يُسَمَّ ل قيل المضمرة . وهذا ليس مذهبَ البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلاً ولا تكون مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه " وكأنَّ الشيخَ قد اختارَ ما بدأ به الزمخشريُّ أولاً ، وفيه ما فَرَّ منه : وهو أنه أسندَ الفعلَ إلى الجملةِ فاللازمُ مُشْتَرَكٌ .

وقد تقدَّم تقريرُ مثلِ هذا في أولِ البقرة . ثم قال : " وأمَّا الثاني يعني أنه ضُمِّنَ " كُتِب " معنى القول فليس مذهبَ البصريين لأنَّه لا تُكْسَرُ " إنَّ " عندهم إلاَّ بعد القول الصريح لا ما هو بمعناه " .

والضميران في " عليه " و " أنه " عائدان على " مَنْ " الأولى كما تقدَّم ، وكذلك الضمائرُ في " تَوَلاَّه " و " فأنه " ، والمرفوعُ في " يُضِلُّه " و " يَهْديه " ؛ لأنَّ " مَنْ " الأول هو المحدَّثُ عنه . والضميرُ المرفوعُ في " تَوَلاَّه " والمنصوبُ في " يُضِِلُُّه " و " يَهْدِيه " عائدٌ على " مَنْ " الثانيةِ . وقيل : الضميرُ في " عليه " لكلِّ شيطانٍ . والضميرُ في " فأنَّه " للشأن . وقال ابن عطية : " الذي يَظْهَرُ لي أنَّ الضميرَ الأولَ في " أنَّه " يعودُ على كل شيطان ، وفي " فأنَّه " يعودُ على " مَنْ " الذي هو المُتَوَلِّي " .