قوله عز وجل : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ، قيل : من ليس للتبعيض ، ومعناه : وننزل من القرآن ما كله شفاء ، أي : بيان من الضلالة والجهالة ، يتبين به المختلف ، ويتضح به المشكل ، ويستشفى به من الشبهة ، ويهتدى به من الحيرة ، فهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها رحمة للمؤمنين . { ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } ، لأن الظالم لا ينتفع به ، والمؤمن من ينتفع به فيكون رحمة له . وقيل : زيادة الخسارة للظالم من حيث أن كل آية تنزل يتجدد منهم تكذيب ويزداد لهم خسارة . قال قتادة لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ، قضى الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً .
قال الفخر الرازى - رحمه الله - : اعلم أنه - تعالى - لما أطنب فى شرح الإِلهيات والنبوات ، والحشر والمعاد والبعث ، وإثبات القضاء والقدر ، ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ، ونبه على ما فيها من الأسرار ، وإنما ذكر كل ذلك فى القرآن ، أتبعه ببيان كون القرآن شفاء ورحمة . فقال - تعالى - : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ . . } .
ثم قال : ولفظة { من } ههنا ليست للتبعيض ، بل هى للجنس كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } والمعنى : وننزل من هذا الجنس الذى هو قرآن ما هو شفاء ، فجميع القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين .
ومما لا شك فيه ، أن قراءة القرآن ، والعمل بأحكامه وآدابه وتوجيهاته . . شفاء للنفوس من الوسوسة ، والقلق ، والحيرة ، والنفاق ، والرذائل المختلفة ، ورحمة للمؤمنين من العذاب الذى يحزنهم ويشقيهم .
إنه شفاء ورحمة لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإِيمان ، فأشرقت بنور ربها ، وتفتحت لتلقى ما فى القرآن من هدايات وإرشادات .
إنه شفاء للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والانحراف عن طريق الحق ، وشفاء لها من الأمراض الجسمانية .
قال القرطبى عند تفسيره لهذه الآية : اختلف العلماء فى كونه - أى القرآن - شفاء على قولين :
أحدهما : أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب ، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل .
الثانى : أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه ، وقد روى الأئمة - واللفظ للدار قطنى - عن أبى سعيد الخُدرى قال : " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سرية ثلاثين راكبًا . قال : فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا . قال : فلدغ سيد الحى ، فأتونا فقالوا : أفيكم أحد يَرْقى من العقرب ؟ قال : قلت : أنا نعم ، ولكن لا أفعل حتى تعطونا فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة . قال : فقرأت عليه { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } سبع مرات فبرئ . فبعثوا إلينا بالنُّزل وبعثوا إلينا بالشاء . فأكلنا الطعام أنا وأصحابى ، وأبوا أن يأكلوا من الغنم ، حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر ، فقال " ما يدريك أنها رقية " ؟ قلت : يا رسول الله ، شئ ألقى فى روعى . قال : " كلوا وأطعمونا من الغنم " " .
والذى تطمئن إليه النفس أن قراءة القرآن الكريم ، والعمل بما فيه من هدايات وإرشادات وتشريعات . . كل ذلك يؤدى - بإذن الله تعالى - إلى الشفاء من أمراض القلوب ومن أمراض الأجسام .
قال بعض العلماء : " وقوله - تعالى - فى هذه الآية { مَا هُوَ شِفَآءٌ } يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه ، كالشك والنفاق وغير ذلك . وكونه شفاء للأجسام إذا رقى عليه به ، كما تدل له قصة الذى رقى الرجل اللديغ بالفاتحة ، وهى صحيحة مشهورة " .
وبعد أن بين - سبحانه - أثر القرآن بالنسبة للمؤمنين ، أتبع ذلك ببيان أثره بالنسبة للظالمين ، فقال : { وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } .
أى : ولا يزيد ما ننزله من قرآن الظالمين إلا خسارا وهلاكًا ، بسبب عنادهم وجحودهم للحق بعد إذ تبين .
قال الآلوسى : وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن . مع أنهم المزدادون فى ذلك لسوء صنيعهم ، باعتباره سببا لذلك ، وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مدارًا للشفاء والشقاء .
كماء صار فى الأصداف درا . . . وفى ثغر الأفاعى صار سما
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقوله - تعالى - { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }
وقرأ الجمهور «وننزل » بالنون ، وقرأ مجاهد «وينزل » بالياء خفيفة ، ورواها المروزي عن حفص ، وقوله { من القرآن } يصح أن تكون { من } لابتداء الغاية ، ويصح أن تكون لبيان الجنس{[7680]} كأنه قال وننزل ما فيه شفاء { من القرآن } وأنكر بعض المتأولين أن يكون { من } للتبعيض لأنه تحفظ من يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه .
قال القاضي أبو محمد : وليس يلزمه هذا بل يصح أن يكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض ، فكأنه قال { وننزل من القرآن } شيئاً شيئاً ما فيه كله { شفاء } ، واستعارته الشفاء للقرآن هو بحسب إزالته للريب وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى المقررة لشرعه ، ويحتمل أن يراد ب «الشفاء » نفعه من الأمراض بالرقى والتعويذ ونحوه{[7681]} ، وكونه رحمته ظاهر ، وقوله { ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } معنى أنه عليهم عمى ، إذ هم معرضون بحالة من لا يفهم ولا يلقن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.