قوله تعالى : { وألق ما في يمينك } يعني العصا { تلقف } تلتقم ، وتبتلع { ما صنعوا } قرأ ابن عامر ( تلقف ) برفع الفاء ها هنا ، وقرأ الآخرون : بالجزم على جواب الأمر { إنما صنعوا } أي :الذي صنعوا { كيد ساحر } أي : حيلة سحر هكذا . قرأ حمزة ، و الكسائي : بكسر السين بلا ألف ، وقرأ الآخرون : ساحر لأن إضافة الكيد إلى الفاعل أولى من إضافته إلى الفعل ، وإن كان ذلك لا يمنع في العربية { ولا يفلح الساحر حيث أتى } من الأرض . قال ابن عباس : لا يسعد حيث كان . وقيل : معناه حيث احتال . { فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى* }
وقوله - سبحانه - : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا . . . } زيادة فى تشجيعه وتثبيته .
وتلقف من اللقف بمعنى الأخذ للشىء بسرعة وخفى ، يقال : لقف فلان يلقَفُه لقْفا ولقَفَاناً ، إذا تناوله بسرعة وحذق باليد أو الفم .
وفى هذه الكلمات ثلاث قراءات سبعية ، أحدها : " تَلَقَّفْ " بتاء مفتوحة مخففة ، بعدها لام مفتوحة ، ثم قاف مشددة وفاء ساكنة ، وأصل الفعل تلقف ، فحذفت إحداهما تخفيفا ، وهو مجزوم فى جواب المر وهو { وَأَلْقِ } .
وثانيها : { تَلَقَّفُ } كالقراءة السابقة مع ضم الفاء ، على أن الفعل خبر لمبتدأ محذوف . أى : وألق ما فى يمينك فهى تلقف ما صنعوا .
وثالثها : { تَلْقَفْ } بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف المخففة وجزم الفعل كالقراءة الأولى .
والمراد فما في يمينه عصاه ، كما جاء ذلك صريحا فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - : { فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } وعبر عنها بقوله : { مَا فِي يَمِينِكَ } على سبيل التهويل من شأنها ، أو لتذكيره بما شاهده منها بعد أن قال الله - تعالى - له قبل ذلك { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى . . . . قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } والمعنى : وألق يا موسى ما فى يمينك تبتلع كل ما صنعه السحرة من تمويه وتزوير وتخييل ، جعل الناس يتوهمون أن حبالهم وعصيهم تسعى .
قال ابن كثير : وذلك أنها صارت تنينا هائلا - أى حية عظيمة - ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصى حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته وابتعلته ، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهارا نهارا . . . فقامت المعجزة ، واتضح البرهان ، وبطل ما كانوا يعملون .
وقوله : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } تعليل لقوله { تَلْقَفْ مَا صنعوا } و { مَا } موصولة وهى اسم إن ، و { كَيْدُ } خبرها ، والعائد محذوف .
والتقدير : وألق يا موسى عصاك تلقف ما صنعوه ، فإن الذى صنعوه إنما هو كيد من جنس كيد السحرة وصنعهم وتمويههم .
{ وَلاَ يُفْلِحُ الساحر } أى ولا يفوز هذا الجنس من الناس { حَيْثُ أتى } أى : حيث كان فحيث ظرف مكان أريد به التعميم .
أى : أن الساحر لا يفلح ولا يفوز أينما كان ، وحيثما أقبل ، وأنَّى اتجه ، لأنه يصنع للناس التخييل والتمويه والتزوير والتزييف للحقائق .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم وحد ساحر ولم يجمع ؟ قلت : لأن القصد فى هذا الكلام إلى معنى الجنسية ، لا إلى معنى العدد ، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد .
{ وألق ما في يمينك } أبهمه ولم يقل عصاك تحقيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويدة التي في يدك ، أو تعظيما لها أي لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا فألقه . { تلقف ما صنعوا } تبتلعه بقدرة الله تعالى ، وأصله تتلقف فحذفت إحدى التاءين وتاء المضارعة تحتمل التأنيث والخطاب على إسناد الفعل إلى المسبب . وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع على الحال أو الاستئناف وحفص بالجزم والتخفيف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته . { إنما صنعوا } إن الذي زوروا وافتعلوا . { كيد ساحر } وقرئ بالنصب على أن ما كافة وهو مفعول صنعوا . وقرأ حمزة والكسائي " سحر " بمعنى ذي سحر ، أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة ، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم علم فقه وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق ولذلك قال : { ولا يفلح الساحر } أي هذا الجنس وتنكير الأول لتنكير المضاف كقول العجاج :
يوم ترى النفوس ما أعدت *** في سعي دنيا طالما قد مدت
كأنه قيل إنما صنعوا كيد سحري { حيث أتى } حيث كان وأين أقبل .
وقرأ جمهور القراء «تلقّفْ » بالجزم على جواب الأمر وبشد القاف ، وقرأ ابن عامر وحده «تلقف » وهو في موضع الحال ويصح أن يكون من الملقى على اتساع ويصح أن يكون من الملقى وهي العصا وهذه حال ، وإن كانت لم تقع بعد كقوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة }{[8129]} [ المائدة : 95 ] وهذا كثير . وقرأ حفص عن عاصم «تلْقف » بسكون اللام وتخفيف القاف وأنث الفعل وهو مسند الى ما في اليمين من حيث كانت العصا مراده بذلك ، وروى البزي عن ابن كثير{[8130]} أنه كان يشدد التاء من «تلقف » كأنه أراد تتلقف فأدغم ، وأنكر أبو علي هذه القراءة ع ويشبه أن قارئها إنما يلتزمها في الوصل حيث يستغنى عن جلب ألف ، وقرأ الجمهور «كيدُ ساحر » برفع الكيد ، وقرأ حمزة والكسائي «كيد السحر » ، وقرأت فرقة «كيدَ » بالنصب «سحر » وهذا على أن «ما » كافة و «كيدَ » منصوب ب { صنعوا } ، ورفع «كيدُ » على أن «ما » بمعنى الذي .
و { يفلح } معناه يبقى ويظفر ببغيته ، وقالت فرقة معناه أن الساحر يقتل حيث ثقف ع وهذا جزاء من عدم الفلاح ، وقرأت فرقة «أين أتى » والمعنى بهما متقارب ، وروي من قصص هذه الآية أن فرعون ، لعنه الله ، جلس في علية له طولها ثمانون ذراعاً والناس تحته في بسيط وجاء سبعون ألف ساحر فألقوا من حبالهم وعصيهم ما فيه وقر{[8131]} ثلاثمائة بعير فهال الأمر .
عبّر عن العصا ب { مَا } الموصولة تذكيراً له بيوم التكليم إذ قال له : { وما تلك بيمينك يا موسى } [ طه : 17 ] ليحصل له الاطمئنان بأنها صائرة إلى الحالة التي صارت إليها يومئذ ، ولذلك لم يقل له : وألق عصاك .
والتلقّف : الابتلاع . وقرأه الجمهور بجزم { تلقّفْ في جواب قوله وَأَلْقِ } . وقرأه ابن ذكوان برفع { تلقّف على الاستئناف .
وقرأ الجمهور تلَقّف بفتح اللام وتشديد القاف .
وقرأه حفص بسكون اللاّم وفتح القاف من لقِف كفرِح .
وجملة { إنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحر } مستأنفة ابتدائية ، وهي مرَكبّة من ( إنّ ) و ( مَا ) الموصولة . و { كيد ساحر } خبر ( إنّ ) . والكلام إخبار بسيط لا قصر فيه . وكتب ( إنما ) في المصحف موصولة ( إنّ ) ب ( ما ) الموصولة كما توصل ب ( ما ) الكافّة في نحو { إنما حرّم عليكم الميتة } [ البقرة : 173 ] ولم يكن المتقدمون يتوخّون الفروق في رسم الخط .
وقرأ الجمهور { كيد ساحر بألف بعد السين . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف كيد سِحر بكسر السين .
وجملة { ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أتى } من تمام الجملة التي قبلها ، فهي معطوفة عليها وحال من ضمير { إنَّمَا صَنَعُوا } ، أي لا يَنجحُ الساحر حيث كان ، لأن صنعته تنكشف بالتأمل وثبات النفس في عدم التأثّر بها . وتعريف { الساحر } تعريف الجنس لقصد الجنس المعروف ، أي لا يفلح بها كلّ ساحر .
واختير فعل { أتى } دون نحو : حيث كانَ ، أو حَيث حلّ ، لمراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر ، وللرعاية على فواصل الآيات الواقعة على حرف الألف المقصورة .
وتعميم { حَيْثُ أتى } لعموم الأمكنة التي يحضرها ، أي بسحره .
وتعليق الحكم بوصف الساحر يقتضي أن نفي الفلاح عن الساحر في أمور السحر لا في تجارة أو غيرها . وهذا تأكيد للعموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، لأنّ عموم الأشياء يستلزم عموم الأمكنة التي تقع فيها .