السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓاْۖ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيۡدُ سَٰحِرٖۖ وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ} (69)

{ وألقِ ما في يمينك } أبهمه ، ولم يقل : عصاك تحقيراً لها ؛ أي : لا تبال بكثرة حبالهم ، وعصيهم ، وألقِ العويد الذي في يدك ، أو تعظيماً لها أي : لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها ، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أي : العصا ، وهي التي قلنا لك أول ما شرَّفناك بالمناجاة : { وما تلك بيمينك يا موسى } [ طه ، 17 ] ، ثم أريناك منها ما أريناك { تلقف } أي : تبتلع بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك { ما صنعوا } أي : فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة ، فلما ألقاها صارت أعظم حية من حياتهم ، ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي ، ثم صعدت حتى علقت ذنبها بطرف الثنية ، ثم هبطت وأكلت كل ما عملوه في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر ، ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها نحو ثمانين ذراعاً ، فصاح بموسى ، فأخذها ، فإذا هي عصا كما كانت ، ونظرت السحرة ، فإذا هي لم تدع من حبالهم ، وعصيهم شيئاً إلا أكلته ، وعرفوا أنه ليس بسحر ، وأصل تلقف تتلقف حذفت إحدى التاءين ، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث على إسناد الفعل إلى العصا ، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب ، وقرأ ابن ذكوان برفع الفاء على الحال أو الاستئناف ، والباقون بسكونها ، وحفص بسكون اللام وتخفيف القاف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته { إنما } أي : الذي { صنعوا } أي : زوَّروا وافتعلوا وهالك أمره { كيد ساحر } أي : كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين ، وسكون الحاء بمعنى ذي سحر ، أو بتسمية الساحر سحراً على المبالغة ، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم : علم فقه ، والباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما .

فإن قيل : لم وحد الساحر ولم يجمع ؟ أجيب بأن القصد من هذا الكلام معنى الجنسية لا معنى العدد ، فلو جمع خيل أن المقصود هو العدد ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { ولا يفلح الساحر } أي هذا الجنس { حيث أتى } أي : كيفما سار ، وقال ابن عباس : لا يسعد حيث كان ، وقيل : معناه حيث احتال ، فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له .

فإن قيل : لم نكر أولاً ، ثم عرف ثانياً أجيب بأنه قال : هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر لا فائدة فيه ، ولا شك أن الكلام على هذا الوجه أبلغ ، ثم أنه امتثل ما أمره به ربه من إلقاء العصا ، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا في غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً ، فعلم كل من رأى ذلك حقيته ، وبطلان ما فعل السحرة ، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله تعالى ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه ، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه السلام ، وحذف ذكر الإلقاء ، وما سببه من التلقف ؛ لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية .