ثم سلى - سبحانه - نبيه صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه فقال : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } .
أى : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - من الأقوال الباطلة التى قالها المشركون فى حقك ، فإن ما قالوه فى شأنك قد قاله السابقون عليهم فى حق رسلهم .
فالآية الكريمة من أبلغ الآيات فى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها كانها تقول له ، إن ما أصابك من أذى قد أصاب إخوانك ، فاصبر كما صبروا .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ . أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } ثم علل - سبحانه - هذه التسلية وهذا التوجيه بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } .
أى : ما يقال لك إلا مثل ما قيل لإخوانك من قبلك ، وما دام الأمر كذلك . فاصبر كما صبروا ، إن ربك الذى تولاك بتربيته ورعايته ، لذو مغفرة عظيمة لعباده المؤمنين وذو عقاب أليم للكفار المكذبين .
ثم قال : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } قال قتادة ، والسدي ، وغيرهما : ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك ، فكما قد كذبت فقد كذبوا ، وكما صبروا على أذى قومهم لهم ، فاصبر أنت على أذى قومك لك . وهذا اختيار ابن جرير ، ولم يحك هو ، ولا ابن أبي حاتم غيره .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ [ لِلنَّاسِ ] } {[25740]} أي : لمن تاب إليه { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } أي : لمن استمر على كفره ، وطغيانه ، وعناده ، وشقاقه ومخالفته .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد {[25741]} عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا غَفْر {[25742]} الله وتجاوزه ما هَنَأ أحدا العيشُ ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد " {[25743]} .
{ ما يقال لك } أي ما يقول لك كفار قومك . { إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم ، ويجوز أن يكون المعنى ما يقول الله لك إلا مثل ما قال لهم . { إن ربك لذو مغفرة } لأنبيائه . { وذو عقاب أليم } لأعدائهم ، وهو على الثاني يحتمل أن يكون المقول بمعنى أن حاصل ما أوحي إليك وإليهم ، وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة .
{ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } .
استئناف بياني جواب لسؤال يثيره قوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } [ فصلت : 40 ] ، وقوله : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } [ فصلت : 41 ] وما تخلل ذلك من الأوصاف فيقول سائل : فما بال هؤلاء طعنوا فيه ؟ فأجيب بأن هذه سنة الأنبياء مع أممهم لا يعدمون معاندين جاحدين يكفرون بما جاءوا به . وإذا بنيت على ما جوزته سابقاً أن يكون جملة : { مَّا يُقَالُ } خبر { إنّ } [ فصلت : 41 ] كانت خبراً وليست استئنافاً .
وهذا تسلية للنبيء بطريق الكناية وأمر له بالصبر على ذلك كما صبر من قبله من الرسل بطريق التعريض . ولهذا الكلام تفسيران :
أحدهما : أن ما يقوله المشركون في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم هو دأب أمثالهم المعاندين من قَبلهم فما صدقُ { مَا قَدْ قِيلَ للِرُّسُلِ } هو مقالات الذين كذبوهم ، أي تشابهت قلوب المكذبين فكانت مقالاتهم متماثلة قال تعالى : { أتواصوا به } [ الذاريات : 53 ] .
التفسير الثاني : ما قُلنا لك إلا ما قلناه للرسل من قبلك ، فأنت لم تكن بدعاً من الرسل فيكون لقومك بعض العذر في التكذيب ولكنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم ، فمَا صدقُ : { مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسل } هو الدين والوحي فيكون من طريقة قوله تعالى : { إن هذا لفي الصحف الأولى } [ الأعلى : 18 ] . وكلا المعنيين وارد في القرآن فيحمل الكلام على كليهما .
وفي التعبير ب { ما } الموصولة وفي حذف فاعل القولين في قوله : { مَّا يُقَالُ } وقوله : { مَا قَدْ قِيلَ } نظم متين حمَّل الكلام هذين المعنيين العظيمين ، وفي قوله : { إلاَّ ما قَدْ قِيل للرسل } تشبيه بليغ . والمعنى : إلا مثل ما قد قيل للرسل .
واجتلاب المضارع في { مَا يُقَال } لإِفادة تجدد هذا القول منهم وعدم ارعوائهم عنه مع ظهور ما شأنه أن يصدهم عن ذلك .
واقتران الفعل ب { قد } لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم فهو تأكيد للازم الخبر وهو لزوم الصبر على قولهم . وهو منظور فيه إلى حال المردود عليهم إذ حسبوا أنهم جابهوا الرسول بما لم يخطر ببال غيرهم ، وهذا على حد قوله تعالى : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 52 ، 53 ] .
{ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أليم }
تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بأن الله يغفر له . ووقوع هذا الخبر عقب قوله : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } يومىء إلى أن هذا الوعد جزاء على ما لقيه من الأذى في ذات الله وأن الوعيد للذين آذوه ، فالخبر مستعمل في لازمه .
ومعنى المغفرة له : التجاوز عما يلحقه من الحزن بما يسمع من المشركين من أذى كثير . وحرف { إنَّ } فيه لإِفادة التعليل والتسبب لا للتأكيد .
وكلمة { ذو } مؤذنة بأن المغفرة والعقاب كليهما من شأنه تعالى وهو يضعهما بحكمته في المواضع المستحقة لكل منهما .
ووصف العقاب ب { أَلِيمٍ } دون وصف آخر للاشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله فإنهم آلموا نفس النبي صلى الله عليه وسلم بما عصوا وآذوا .
وفي جملة : { إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة وَذُو عِقَابٍ ألِيم } مُحسِّن الجمع ثم التقسيم ، فقوله : { ما يقال لك } يجمع قائلاً ومقولاً له فكان الإِيماء بوصف ( ذو مغفرة ) إلى المقول له ، ووصف { ذو عقاب أليم } إلى القائلين ، وهو جار على طريقة اللف والنشر المعكوس وقرينة المقام ترد كُلاًّ إلى مناسبه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.