ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن يصارح أعداءه ببراءته من شركهم ومن اتباع باطلهم فقال - تعالى - : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ } .
قال الإمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما ذكر فى الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين . ذكر فى هذه الآية أنه - تعالى - نهى عن سلوك سبيلهم فقال : إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ، وبين أن الذين يعبدونها إنما يعبدونها بناء على محض الهوى والتقليد لا على سبيل الحجة والدليل ، لأنها جمادات وأحجار وهى أخس مرتبة من الإنسان بكثير . وكون الأشرف مشتغلا بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل ، وأيضاً فالقوم كانوا ينحتون تلك الأصنام ويركبونها ، ومن المعلوم بالبديهة أنه يقبح من هذا العامل الصانع أن يعبد معموله ومصنوعه ، فثبت أن عبادتها مبنية على الهوى ومضادة للهدى " .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك أن تركن إليهم : إن الله نهانى وصرفنى بفضله ، وبما منحنى من عقل مفكر عن عبادة الآلهة التى تعبدونها من دون الله ، وقل - أيضاً - لهم بكل صراحة وقوة : إنى لست متبعا لما تمليه عليكم أهواؤكم وشهواتكم من انقياد للأباطيل ، ولو أنى ركنت إليكم لضللت عن الحق وكنت خارجا عن طائفة المهتدين .
فالآية الكريمة قطعت بكل حسم ووضوح أطماعهم الفارغة فى استمالة النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهوائهم ، ووصمتهم بأنهم فى الضلال غارقون ، وعن الهدى مبتعدون .
وجاءت كلمة { نُهِيتُ } بالبناء للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهوره ، أى : نهانى الله - تعالى - عن ذكل . وأجرى على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء لأنهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكى اعتقادهم .
قال أبو حيان : و " تدعون " معناه تعبدون : وقيل معناه تسمونهم آلهة من دعوت ولدى زيداً أى سميته بهذا الإسم . وقيل تدعون فى أموركم وحوائجكم وفى قوله تدعون من دون الله استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة ، ولفظة نهيت أبلغ من النفى بلا أعبد إذ ورد فيه ورود تكليف " .
وجملة { قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ } مستأنفة ، وعدل بها عن العطف إلى الاستئناف لتكون غرضاً مستقلا ، وأعيد الأمر بالقول زيادة فى الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا النفى شاملا للاتباع فى عبادة الأصنام وفى غيرها من ألوان ضلالهم كطلبهم طرد المؤمنين من مجلسه ، وعبر بقوله { قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ } دون لا أتبعكم . للإشارة إلى أنهم فى عبادتهم لغير الله تابعون للأهواء الباطلة ، نابذون للأدلة العقلية ، وفى هذا أكبر برهان على انطماس بصيرتهم ، وبنائهم لدينهم على الأوهام والأباطيل .
وجملة { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } جواب لشرط مقدر . أى : إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت إذاً وما اهتديت .
وجملة { وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين } معطوفة على جملة { قَدْ ضَلَلْتُ } ومؤكدة لمضمونها أى : إنه إن فعل ذلك - على سبيل الفرض والتقدير - خرج عن الحالة التى هو عليها الآن من كونه فى عداد المهتدين إلى كونه فى زمرة الضالين .
والتعبير بقوله { وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين } أبلغ من قوله وما أنا مهتد ، لأن التعريف فى المهتدين تعريض للجنس ، وإخبار التكلم عن نفسه بأنه من المهتدين يفيد أنه واحد من الفئة التى تعرف عند الناس بفئة المهتدين ، فيفيد أنه مهتد بطريقة تشبه طريقة الاستدلال ، فهو من قبيل الكناية التى هى إثبات الشىء بإثبات ملزومه وهى أبلغ من التصريح . ولذا قال صاحب الكشاف : قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك فلان عالم ، لأنك تشهد له بكونه معدوداً فى زمرتهم ومعرفة مساهمته معهم فى العلم " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُلْ لاّ أَتّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك ، العادلين به الأوثان والأنداد ، الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان : إن الله نهاني أن أعبد الذين تدعون من دونه ، فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك ولا أوافقكم عليه ، ولا أعطيكم محبتكم وهواكم فيه ، وإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحقّ وسلكت على غير الهدى ، فصرت ضالاّ مثلكم على غير استقامة . وللعرب في «ضللت » لغتان : فتح اللام وكسرها ، واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها ، وبها قرأ عامة قراء الأمصار ، وبها نقرأ لشهرتها في العرب وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها والقراء بها قليلون ، فمن قال ضَلَلْتُ قال أضِلّ ، ومن قال ضَلِلْتُ قال في المستقبل أَضَلّ ، وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن : وقالوا أئِذا ضَلَلْنا بفتح اللام .
أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه و { أن أعبد } هو بتأويل المصدر ، والتقدير :«عن عبادة » ، ثم حذف الجار فتسلط الفعل ثم وضع { أن أعبد } موضع المصدر ، وعبر عن الأصنام ب { الذين } على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل ، و { تدعون } معناه تعبدون ، ويحتمل أن يريد تدعون في أموركم وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة وقرأ جمهور الناس «قد ضلَلت » بفتح اللام ، قرأ يحيى بن وثاب وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف «ضلِلت » بكسرها ، وهما لغتان و { إذاً } في هذا الموضع متوسطة وما بعدها معتمد على ما قبلها فهي غير عاملة إلا أنها تتضمن معنى الشرط فهي بتقدير إن فعلت ذلك ف { أهواء } جمع هوى وهو الإرادة والمحبة في المرديات من الأمور هذا غالب استعمال الهوى وقد تقدم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.