ثم انتقلت السورة الكريمة - للمرة الخامسة - إلى توبيخهم على كفرهم ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسألهم أجراً على ما ينقذهم من ظلمات هذا الكفر إلى نور الإيمان . فقال - تعالى - { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً . . . } أى : أجراً وجعلا وجزاء . . .
أى : أيكون السبب فى عدم إيمانهم بك - أيها الرسول الكريم - أنك تسألهم أجرا على دعوتك لهم إلى إخلاص العبادة لنا ؟
لا : ليس الأمر كما يتوهمون ، فإنك لم تسألهم أجراً على دعوتك إياهم إلى الدخول فى الإسلام .
والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ . . . } وما بينهما اعتراض وقوله - سبحانه - : { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } تعليل لنفى سؤالهم إياهم الأجر على دعوتهم إلى الحق .
أى : أنت - أيها الرسول الكريم - ما طالتهم بأجر على دعوتك إياهم إلى الإيمان بالله - تعالى - وحده ، لأن ما أعطاك الله - تعالى - من خير وفضل أكبر وأعظم من عطاء هؤلاء الضعفاء الذين لا يستغنون أبداً عن عطائنا . والله - تعالى - هو خير الرازقين ، لأن رزقه دائم ورزق غيره مقطوع ، ولأنه هو المالك لجميع الأرزاق ، وغيره لا يملك معه شيئاً .
قال بعض العلماء : المراد بالخرج والخراج هنا : الأجر والجزاء والمعنى : أنك لا تسألهم على ما بلغتهم من الرسالة المتضمنة لخيرى الدنيا والآخرة أجرا وأصل الخرج والخراج : هو ما تخرجه إلى كل عامل فى مقابلة أجرة أو جعل .
وقرأ ابن عامر : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرْجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } - بإسكان الراء فيهما معاً وحذف الألف- .
وقرأ حمزة والكسائي : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرَاجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } بفتح الراء بعدها ألف فيهما معاً - .
وقرأ الباقون : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } بإسكان الراء وحذف الألف فى الأول وفتح الراء وإثبات الألف فى الثانى .
والتحقيق : أن معنى اللفظين واحد ، وأنهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان سبعيتان ، خلافاً لمن زعم أن بين معناها فرقاً زاعماً أن الخرج ما تبرعت به ، وأن الخراج ما لزمك أداؤه " .
وقوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا } : قال الحسن : أجرا . وقال قتادة : جعلا { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى ، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه ، كما قال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ } [ سبأ : 47 ] ، وقال : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ، وقال : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [ الشورى : 23 ] ، وقال تعالى : { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [ يس : 20 ، 21 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * وَإِنّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : أم تسأل هؤلاء المشركين يا محمد من قومك خَراجا ، يعني أجرا على ما جئتهم به من عند الله من النصيحة والحقّ فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ : فأجر ربك على نفاذك لأمره ، وابتغاء مرضاته خير لك من ذلك ، ولم يسألهم صلى الله عليه وسلم على ما أتاهم به من عند الله أجرا ، قال لهم كما قال الله له ، وأمره بقيله لهم : قُلْ لا أسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُربى وإنما معنى الكلام : أم تسألهم على ما جئتهم به أجرا ، فنكصُوا على أعقابهم إذا تلوتَه عليهم ، مستكبرين بالحرم ، فخراج ربك خير .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : أمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجا فخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ قال : أجرا .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن ، مثله .
وأصل الخراج والخَرْج : مصدران لا يُجْمعان .
وقوله : وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ يقول : والله خير من أعطى عوضا على عمل ورزق رزقا .
{ أم تسألهم } قيل أنه قسيم قوله { أم به جنة } . { خرجا } أجرا على أداء الرسالة . { فخراج ربك } رزقة في الدنيا أو ثوابه في العقبى . { خير } لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك ، والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه ، وقرأ ابن عامر " خرجا فخرج " وحمزة والكسائي " خراجا فخراج " للمزاوجة . { وهو خير الرازقين } تقرير لخيرية خراجه تعالى .
هذا توبيخ لهم كأنه قال : أم سألتهم مالاً فقلقوا بذلك واستثقلوا من أجله ، وقرأ حمزة والكسائي «خراجاً فخراج » وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم «خرجاً فخراج » وقرأ ابن عامر «خرجاً فخرج » وهو المال الذي يجيء ويؤتى به لأوقات محدودة ، قال الأصمعي : الخرج الجعل مرة واحدة والخراج ما تردد لأوقات ما ، ع وهذا فرق استعمالي وإلا فهما في اللغة بمعنى ، وقد قرىء «خراجاً » في قصة ذي القرنين{[8528]} وقوله { فخراج ربك } يريد ثوابه سماه «خراجاً » من حيث كان معادلاً للخراج في هذا الكلام ، ويحتمل أن يريد { فخراج ربك } رزق ربك ويؤيد هذا قوله { وهو خير الرازقين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.