قوله تعالى : { قال } موسى { إن سألتك عن شيء بعدها } بعد هذه المرة { فلا تصاحبني } وفارقني ، وقرأ يعقوب : فلا تصاحبني بغير ألف من الصحبة . { قد بلغت من لدني عذراً } ، قرأ أبو جعفر ونافع وأبو بكر { من لدني } خفيفة النون ، وقرأ الآخرون ، بتشديدها ، قال ابن عباس : أي قد أعذرت فيما بيني وبينك . وقيل : حذرتني أني لا أستطيع معك صبراً . وقيل : اتضح لك العذر في مفارقتي .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا محمد بن عبد ا الأعلى القيسي ، ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه عن رقية ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله علينا وعلى موسى ، وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه لولا أنه عجل لرأى العجب ، ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ، قال : " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً لو صبر لرأى العجب " .
ويراجع موسى نفسه . فيجد أنه قد خالف ما اتفق عليه مع الرجل الصالح مرتين ، فيبادر بإخبار صاحبه أن يترك له فرصة أخيرة فيقول : { إن سألتك } أيها الصديق { عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا } أى : بعد هذه المرة الثانية { فلا تصاحبنى } أى : فلا تجعلنى صاحبا أو رفيقا لك ، فإنك { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } أى : فإنك قد بلغت الغاية التى تكون معذورا بعدها فى فراقى ، لأنى أكون قد خالفتك مراراً .
وهذا الكلام من موسى - عليه السلام - يدلك على اعتذاره الشديد للخضر ، وعلى شدة ندمه على ما فرط منه ، وعلى الاعتراف له بخطئه .
قال القرطبى : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال يوما : " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب ، ولكنه قال : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي . . } " .
{ قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } وان سألت صحبتك ، وعن يعقوب " فلا تصحبني " أي فلا تجعلني صاحبك . { قد بلغت من لدُني عذرا } قد وجدت عذرا من قبلي لما خالفتك ثلاث مرات . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب " . وقرأ نافع " من لدني " بتحريك النون والاكتفاء بها عن نون الدعامة كقوله :
قِدني من نصر الحبيبين قُدى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ الجمهور «فلا تصاحبني » ورواها أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عيسى ويعقوب «فلا تصحبني » ، وقرأ عيسى أيضاً «فلا تُصحبني » بضم التاء وكسر الحاء ورواها سهل عن أبي عمرو ، والمعنى فلا تصحبني علمك ، وقرأ الأعرج «فلا تَصحبنّي » : بفتح التاء والباء وشد النون ، وقوله { قد بلغت من لدني عذراً } أي قد أعذرت إلي ، وبلغت إلى العذر من قبلي ، ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلاً للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة ، وأيام التلوم ثلاثة فتأمله . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم من «لَدُنّي » بفتح وضم الدال وشد النون .
وهي «لدن » اتصلت بها نون الكناية التي في ضربني ونحوه{[7855]} ، فوقع الإدغام ، وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ نافع وعاصم «لَدُني » كالأولى إلا أن النون مخففة ، فهي «لدن » اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي ، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه{[7856]} ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «لَدْني » بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وهي تخفيف «لدني » التي ذكرناها قبل هذه وروي عن عاصم «لُدْني » بضم اللام وسكون الدال{[7857]} قال ابن مجاهد وهي غلط قال أبو علي هذا التغليظ يشبه أن يكون من جهة الرواية فأما على قياس العربية فهي صحيحة ، وقرأ الحسن «لَدْني » بفتح اللام وسكون الدال ، وقرأ الجمهور «عذْراً » وقرأ أبو عمرو وعيسى «عذُراً » بضم الدال ، وحكى الداني أن أبي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم «عذري » بكسر الراء وياء بعدها وأسند الطبري ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه ، فقال يوماً رحمة الله علينا ، وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب ، ولكنه قال { فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً }{[7858]} وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر ، حتى يقص علينا من أمرهما »{[7859]} ، وروي في تفسير هذه الآية أن الله جعل هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر ، حجة على موسى وعجباً له ، وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة ، نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم ، فلما أنكر أمر الغلام ، قيل له أين إنكارها هذا من وكرك للقبطي وقضائك عليه ؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك حجر البير لبنات شعيب دون أجر ؟
أنْصف موسى إذ جعل لصاحبه العذر في ترك مصاحبته في الثالثة تجنباً لإحراجه .
وقرأ الجمهور : { لَّدُنّي } بتشديد النون قال ابن عطية : وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن فيها سنداً خاصاً مروياً فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير .
وقرأ نافع ، وأبو بكر ، وأبو جعفر { مِنْ لَدُنِي بتخفيف النون على أنه حذف منه نون الوقاية تخفيفاً ، لأن ( لدنْ ) أثقل من ( عَن ) ( ومَن ) فكان التخفيف فيها مقبولاً دونهما .
ومعنى { قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنّي عُذراً } قد وصلت من جهتي إلى العذر . فاستعير { بَلَغْتَ } لمعنى ( تحتّم وتعين ) لوجود أسبابه بتشبيه العذر في قَطع الصحبة بمكان ينتهي إليه السائر على طريقة المكنية . وأثبت له البلوغ تخييلاً ، أو استعار البلوغ لتَعيُّن حصول الشيء بعد المماطلة .