اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا} (76)

فعند ذلك قال موسى : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } وهذا كلام نادمٍ .

قوله : " فَلاَ تُصَاحِبْنِي " : العامة على " تُصاحِبْني " من المفاعلة ، وعيسى ويعقوب : " فلا تَصْحبنِّي ] " من صحبه يصحبه .

وأبو عمرو في{[21237]} رواية ، وأبيٌّ بضمِّ التاءِ من فوق ، وكسر الحاء ، من أصحب يصحب ، ومفعوله محذوف ، تقديره : فلا تصحبني نفسك ، وقرأ أبيٌّ " فلا تصحبني علمك " فأظهر المفعول .

قوله : " مِنْ لدُنِّي " العامة على ضمِّ الدال ، وتشديد النون ، وذلك أنَّهم أدخلوا نون الزيادة أعني الوقاية على " لَدُن " لتقيها من الكسر ؛ محافظة على سكونها ، حوفظ على سكون نون " مِنْ " و " عَنْ " فألحقت بهما نون الوقايةِ ، فيقولون : منِّي وعنِّي بالتشديد .

ونافع{[21238]} بتخفيف النون ، والوجه فيه : أنَّه لم يلحقْ نون الوقاية ل " لَدُن " إلا أن سيبويه{[21239]} منع من ذلك وقال : " لا يجوز أن تأتي ب " لَدُنْ " مع ياء المتكلم ، دون نون وقاية " وهذه القراءة حجة عليه ، فإن قيل : لم لا يقال : إن هذه النون نون الوقاية ، وإنَّما اتصلت ب " لَدُ " لغة في " لَدُنْ " حتى يتوافق قول سيبويه ، مع هذه القراءة ؟ قيل : لا يصحُّ ذلك من وجهين :

أحدهما : أنَّ نون الوقاية ، إنما جيء بها ؛ لتقيَ الكلمة الكسر ؛ محافظة على سكونها ، ودون النون لا سكون ؛ لأنَّ الدال مضمومة ، فلا حاجة إلى النُّون .

الثاني : أن سيبويه يمنع أن يقال : " لَدُنِي " بالتخفيف .

وقد حذفت النون من " عَنْ " و " مِنْ " في قوله : [ الرمل ]

أيُّهَا السَّائلُ عنهم وعنِي *** لستُ من قَيْسٍ ولا قَيْسُ مني{[21240]}

وقرأ أبو بكر بسكون الدَّال ، وتخفيف النون ، لكنَّه ألزم الدال الضمة منبهة على الأصل .

ولكن تحتمل هذه القراءة أن تكون النون فيها أصليَّة ، وأن تكون للوقاية على أنها دخلت على " لد " الساكنة الدال ، لغة في " لدُنْ " فالتقى ساكنان ، فكسرت نون الوقاية على أصلها ، وإذا قلنا بأنَّ النون أصلية ، فالسكون تخفيف ؛ كتسكين ضاد " عضدٍ " وبابه واختلف القراء في هذا الإشمام ، فقائل : هو إشارة بالعضو من غير صوتٍ ، كالإشمام الذي في الوقف ، وهذا هو المعروف ، وقائل : هو إشارة للحركة المدركة بالحسِّ ، فهو كالرَّوْم في المعنى ، يعني : أنه إتيان ببعض الحركة ، وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قوله { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] ، وفي قوله في هذه السورة " من لدنه " في قراءة شعبة أيضاً ، وتقدَّم بحثٌ يعود مثله هنا .

وقرأ{[21241]} عيسى وأبو عمرو في رواية " عُذُراً " بضمتين ، وعن أبي عمرو أيضاً " عذري " مضافاً لياءِ المتكلم .

و " مِنْ لدُنِّي " متعلق ب " بَلغْتَ " أو بمحذوف على أنَّه حال من " عُذْراً " .

فصل في معنى الآية

قال ابن عباس : معناه : أعذرت فيما بيني وبينك{[21242]} .

وقيل : حذَّرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً .

وقيل : اتَّضح لك العذر في مفارقتي .

والمراد أنَّه مدحه بهذه الطريقة من حيث إنَّه احتمله مرَّتين أولاً وثانياً .

روى ابن عبَّاس عن أبيِّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَحْمَةُ الله عليْنَا ، وعلى مُوسَى " وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بدأ بنفسه " لولا أنَّه عجَّل ، لرأى العجب ، ولكنَّه أخذته من صاحبه ذمامة ، قال : " إنْ سألتُكَ عَن شيءٍ بعدها ، فلا تُصَاحِبنِي ، قَدْ بلغْتَ من لدُنِّي عُذْراً ؛ فلو صبر ، لرأي العجب " {[21243]} .


[21237]:ينظر في قراءاتها: الإتحاف 2/222، والنشر 2/313، والشواذ 81، والقرطبي 11/17، والبحر 6/142، والدر المصون 4/474.
[21238]:ينظر في قراءاتها: السبعة 396، والحجة 425، والنشر 2/313، والتيسير 145، والإتحاف 2/222، والحجة للقراء السبعة 5/160، وإعراب القراءات 1/407، والقرطبي 11/17، والبحر 6/142، والكشاف 2/736، والدر المصون 4/474.
[21239]:ينظر: الكتاب 1/386 ـ 387.
[21240]:ينظر البيت في شرح ابن عقيل 1/114، شرح المفصل لابن يعيش 3/125، الأشموني 1/124، التصريح 1/112، الخزانة 2/380، الدر المصون 4/475.
[21241]:ينظر: القرطبي 11/17، والبحر 6/142، والدر المصون 4/475.
[21242]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/175) .
[21243]:تقدم.