الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا} (76)

قوله : { فَلاَ تُصَاحِبْنِي } : العامَّةُ على " تصاحِبْني " من المفاعلة . وعيسى ويعقوب : " فلا تَصْحَبَنِّي " مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه . وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء ، مِنْ أصحب يُصْحِب ، ومفعولُه محذوفٌ تقديره : فلا تُصْحِبْني نفسك . وقرأ أُبَيٌّ " فلا تُصْحِبْني عِلْمَك " فأظهر المفعول .

قوله : { مِن لَّدُنِّي } العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون . وذلك أنَّهم اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على " لَدُن " لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها ، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون " مِنْ " و " عَنْ " فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون : مِنِّي وعَنِّي بالتشديد .

ونافعٌ بتخفيف النون . والوجهُ فيه : أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية ل " لَدُن " . إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال : " لا يجوزُ أَنْ تأتيَ ب " لَدُنْ " مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية " . وهذه القراءةُ حجةٌ عليه . فإنْ قيل : لِمَ لا يُقال : إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ ، وإنما اتصلَتْ ب " لَدُ " لغةً في " لَدُن " حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة ؟ قيل : لا يَصِحُّ ذلك من وجهين ، أحدهما : أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها . ودون النون لا يُسَكِّنون ؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ ، فلا حاجةَ إلى النون .

والثاني : أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال : " لَدُني " بالتخفيف .

وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ " عَنْ " و " مِنْ " في قوله :

أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ *** لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ

ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً ، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على " لَدْ " الساكنة الدال ، لغةً في " لدن " فالتقى ساكنان فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها . وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد " عَضْد " وبابِه .

وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً ، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل . واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ ، فقائلٌ : هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف ، وهذا هو المعروف . وقائلٌ : هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى ، يعني : أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ . وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه

{ لاَ تَأْمَنَّا } [ الآية : 11 ] ، وفي قوله في هذه السورةِ " مِنْ لدنه " في قراءة شعبة أيضاً ، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا .

وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ " عُذُراً " بضمتين . وعن أبي عمرو أيضاً " عُذْرِي " مضافاً لياءِ المتكلم .

و { مِن لَّدُنِّي } متعلقٌ ب " بَلَغْتَ " ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " عُذْرا " .