قوله تعالى :{ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا } أي : لا يهلكون فيستريحوا كقوله عز وجل : { فوكزه موسى فقضى عليه } أي : قتله . وقيل : لا يقضي عليهم الموت فيموتوا ، كقوله : { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } أي : ليقض علينا الموت فنستريح ، { ولا يخفف عنهم من عذابها } من عذاب النار ، { كذلك نجزي كل كفور } كافر ، قرأ أبو عمرو : يجزى بالياء وضمها وفتح الزاي ، كل رفع على غير تسمية الفاعل ، وقرأ الآخرون بالنون وفتحها وكسر الزاي ، كل نصب .
وبعد هذا البيان البليغ يشرح الصدور لحسن عاقبة المفحلين ، ساقت السورة الكريمة حال الكافرين ، وما هم فيه من عذاب مهين ، فقال - تعالى - : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ . . . بِذَاتِ الصدور } .
اى : { والذين كَفَرُواْ } فى الدنيا بكل ما يجب الإِيمان به { لَهُمْ } فى الآخرة { نَارُ جَهَنَّمَ } يعذبون فيها تعذيباً أليماً .
ثم بين - سبحانه - حالهم فى جهنم فقال : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } أى : لا يحكم عليهم فيما بالموت مرة أخرى كما ماتوا بعد انقضاء آجالهم فى الدنيا ، وبذلك يستريحون من العذب . ولا يخفف عنهم من عذاب جهنم ، بل هى كلمات خبت أو هدأ لهيبها ، عادت مرة أخرى إلى شدتها ، وازدادت سعيرا .
والمراد أنهم باقون فى العذاب الأليم بدون موت ، أو حياة يستريحون فيها .
{ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } أى : مثل هذا الجزاء الرادع الفظيع ، نجرى فى الآخرة ، كل شخص كان فى الدنيا شديد الجحود والكفران آيات ربه ، الدالة على وحدانيته وقدرته . .
{ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم } لا يحكم عليهم بموت ثان . { فيموتوا } فيتسريحوا ، ونصبه بإضمار أن وقرئ " فيموتون " عطفا على { يقضى } فقوله تعالى : { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } . { ولا يخفف عنهم من عذابها } بل كلما خبت زيد إسعارها . { كذلك } مثل ذلك الجزاء . { نجزي كل كفور } مبالغ في الكفر أو الكفران ، وقرأ أبو عمرو " يجزى " على بناء المفعول وإسناده إلى { كل } ، وقرى " يجازي " .
ثم أخبر عن حال { الذين كفروا } معادلاً بذلك الإخبار قبل عن الذين اصطفى ، وهذا يؤيد تأويل من قبل إن الأصناف الثلاثة هي كلها في الجنة لأن ذكر الكافرين إنما جاء ها هنا ، وقوله { لا يقضى } معناه لا يجهز لأنهم لو ماتوا لبطلت حواسهم فاستراحوا ، وقرأ الحسن البصري والثقفي «فيموتون » ووجهها العطف على { يقضى } وهي قراءة ضعيفة{[9738]} .
وقوله { لا يخفف عنهم من عذابها } لا يعارضه قوله { كلما خبت زدناهم سعيراً }{[9739]} [ الإسراء : 97 ] لأن المعنى لا يخفف عنهم نوع عذابهم والنوع في نفسه يدخله أن يخبو أو يسعر ونحو ذلك ، وقرأ جمهور القراء ، «نجزي » بنصب «كلَّ » وبالنون في «نجزي » ، وقرأ أبو عمرو ونافع «يُجزى » بضم الياء على بناء الفعل للمفعول «كلُّ كفور » برفع «كلُّ » .
مقابلة الأقسام الثلاثة للذين أُورثوا الكتاب بذكر الكافرين يزيدنا يقيناً بأن تلك الأقسام أقسام المؤمنين ، ومقابلة جزاء الكافرين بنار جهنم يوضح أن الجنة دار للأقسام الثلاثة على تفاوت في الزمان والمكان .
وفي قوله تعالى في الكفار : { ولا يخفف عنهم من عذابها } إيماء إلى أن نار عقاب المؤمنين خفيفة عن نار المشركين .
فجملة { والذين كفروا } معطوفة على جملة { جنات عدن يدخلونها } [ فاطر : 33 ] .
ووقع الإِخبار عن نار جهنم بأنها { لهم } بلام الاستحقاق للدلالة على أنها أعدت لجزاء أعمالهم كقوله تعالى : { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } في سورة البقرة ( 24 ) وقوله : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } في سورة آل عمران ( 131 ) ، فنار عقاب عصاة المؤمنين نار مخالفة أو أنها أعدت للكافرين .
وإنما دخل فيها من أدخل من المؤمنين الذين ظلموا أنفسهم لاقترافهم الأعمال السيئة التي شأنها أن تكون للكافرين .
وقدم المجرور في لهم نار جهنم } على المسند إليه للتشويق إلى ذكر المسند إليه حتى إذا سمعه السامعون تمكن من نفوسهم تمام التمكن .
وجملة { لا يقضى عليهم } بدل اشتمال من جملة { لهم نار جهنم } ، والقضاء : حقيقته الحكم ، ومنه قضاء الله حكمه وما أوجده في مخلوقاته . وقد يستعمل بمعنى أماته كقوله تعالى : { فوكزه موسى فقضى عليه } [ القصص : 15 ] . وهو هنا محتمل للحقيقة ، أي لا يقدرُ الله موتهم ، فقوله : { فيموتوا } مسبب على القضاء . والمعنى : لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا ، ومحتمل للمجاز وهو الموت . وتفريع { فيموتوا } على هذا الوجه أنهم لا يموتون إلا الإِماتة التي يتسبب عليها الموت الحقيقي الذي يزول عنده الإِحساس ، فيفيد أنهم يُماتون مَوتاً ليس فيه من الموت إلا آلامه دون راحته ، قال تعالى : { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون } [ الزخرف : 77 ] وقال تعالى : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [ النساء : 56 ] .
وضمير { عذابها } عائد إلى جهنم ليشمل ما ورد من أن المعذبين يعذبون بالنار ويعذبون بالزمهرير وهو شدة البرد وكل ذلك من عذاب جهنم .
ووقع { كذلك } موقع المفعول المطلق لقوله : { نجزي } أي نجزيهم جزاء كذلك الجزاء ، وتقدم عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } في سورة البقرة ( 143 ) .
وجملة { كذلك نجزي كل كفور } تذييل . والكفور : الشديد الكفر ، وهو المشرك .
وقرأ الجمهور { نجزي } بنون العظمة ونصب { كل } . وقرأه أبو عمرو وحده { يُجزَى } بياء الغائب والبناء للنائب ورفع { كل } .