وقوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } جواب { إذا } فى الآيات الأربع .
أى : إذا تم ذلك ، علمت كل نفس ما قدمت من خير أو شر ، وما أخرت من سنة حسنة ، أو سنة سيئة يعمل بها بعدها .
قال الجمل ما ملخصه : واعلم أن المراد من هذه الآيات أنه إذا وقعت هذه الأشياء التى هى أشراط الساعة ، فهناك يحصل الحشر والنشر ، وهى هنا أربعة : اثنان منها يتعلقان بالعلويات ، واثنان يتعلقان ، بالسفليات ، والمراد بهذه الآيات : بيان تخريب العالم ، وفناء الدنيا ، وانقطاع التكاليف . . وإنما كررت إذا لتهويل ما فى حيزها من الدواهى .
وجواب { إذا } وما عطف عليها قوله { عَلِمَتْ نَفْسٌ } أى : علمت كل نفس وقت هذه المذكورات الأربعة { مَّا قَدَّمَتْ } من الأعمال وما أخرت منها فلم تعمله .
ومعنى علم النفس بما قدمت وأخرت : العلم التفصيلى . وذلك عند نشر الصحف - كما تقدم فى سورة التكوير - أما العلم الإِجمالى فيحصل فى أول زمن الحشر ، لأن المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصى يرى آثار الشقاوة فى أول الأمر ، وأما العلم التفصيلى فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة . .
وبعد أن أشار - سبحانه - إلى أهوال علامات الساعة التى من شأنها أن تنبه العقول والحواس والمشاعر . .
يؤيد هذا ويتناسق معه قوله بعد عرض هذه المشاهد والأحداث : ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) . . أي ما فعلته أولا وما فعلته أخيرا . أو ما فعلته في الدنيا ، وما تركته وراءها من آثار فعلها . أو ما استمتعت به في الدنيا وحدها ، وما ادخرته للآخرة بعدها .
على أية حال سيكون علم كل نفس بهذا مصاحبا لتلك الأهوال العظام . وواحدا منها مروعا لها كترويع هذه المشاهد والأحداث كلها !
والتعبير القرآني الفريد يقول : ( علمت نفس ) . . وهو يفيد من جهة المعنى : كل نفس . ولكنه أرشق وأوقع . . كما أن الأمر لا يقف عند حدود علمها بما قدمت وأخرت . فلهذا العلم وقعه العنيف الذي يشبه عنف تلك المشاهد الكونية المتقلبة . والتعبير يلقي هذا الظل دون أن يذكره نصا . فإذا هو أرشق كذلك وأوقع !
وجملة : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } جوابٌ لما في { إذا } من معنى الشرط ، ويتنازع التعلق به جميع ما ذكر من كلمات { إذا } الأربع . وهذا العلم كناية عن الحساب على ما قدمت النفوس وأخرت .
وعِلم النفوس بما قدمت وأخرت يحصل بعد حصول ما تضمنته جمل الشرط ب { إذا } إذ لا يلزم في ربط المشروط بشرطه أن يكون حصوله مقارناً لحصول شرطه لأنّ الشروط اللغوية أسباب وأمارات وليست عِللاً ، وقد تقدم بيان ذلك في سورة التكوير .
صيغة الماضي في قوله : { انفطرت } وما عطف عليه مستعملة في المستقبل تشبيهاً لتحقيق وقوع المستقبل بحصول الشيء في الماضي .
وإثبات العلم للناس بما قدموا وأخروا عند حصول تلك الشروط لعدم الاعتداد بعلمهم بذلك الذي كان في الحياة الدنيا ، فنزل منزلة عدم العلم كما تقدم بيانه في قوله : { علمت نفس ما أحضرت } في سورة التكوير ( 14 ) .
و{ نفس } مراد به العموم على نحو ما تقدم في : { علمت نفس ما أحضرت } في سورة التكوير ( 14 ) .
و{ ما قدمت وأخرت } : هو العمل الذي قدمتْه النفس ، أي عملته مقدماً وهو ما عملته في أول العمر ، والعملُ الذي أخرته ، أي عملته مؤخراً أي في آخر مدة الحياة ، أو المراد بالتقديم المبادرة بالعمل ، والمراد بالتأخير مقابله وهو ترك العمل .
والمقصود من هذين تعميم التوقيف على جميع ما عملته ومثله قوله تعالى : { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } في سورة لا أقسم بيوم القيامة ( 13 ) .
والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلوماً من قبل وبتذكر ما نُسي لطول المدة عليه كما تقدم في نظيره في سورة التكوير . وهذا وعيد بالحساب على جميع أعمال المشركين ، وهم المقصود بالسورة كما يشير إليه قوله بعد هذا : { بل تكذبون بالدين } [ الانفطار : 9 ] ، ووعد للمتقين ، ومختلط لمن عملوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
علمت كلّ نفس ما قدّمت لذلك اليوم من عمل صالح ينفعه، وأخرت وراءه من شيء سنّه فعمل به. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك...
وقال آخرون: عُنِي بذلك: ما قدّمت من الفرائض التي أدتها، وما أخرّت من الفرائض التي ضيعتها...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما قدّمت من خير أو شرّ، وأخّرت من خير أو شرّ...
وإنما اخترنا القول الذي ذكرناه، لأن كلّ ما عمل العبد من خير أو شرّ فهو مما قدّمه، وأن ما ضيّع من حقّ الله عليه وفرّط فيه فلم يعمله، فهو مما قد قدّم من شرّ، وليس ذلك مما أخّر من العمل، لأن العمل هو ما عمله، فأما ما لم يعمله فإنما هو سيئة قدّمها، فلذلك قلنا: ما أخر: هو ما سنه من سنة حسنة وسيئة، مما إذا عمل به العامل كان له مثل أجر العامل بها أو وزره...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي تعلم الأنفس ما عملت إلى آخر ما انتهى عملها، فلا يخفى عليها شيء من أمرها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى (ما قدمت وأخرت) ما أخذت وتركت مما يستحق به الجزاء. وقيل: معناه كل ما يستحق به الجزاء مما كان في أول عمره أو آخره...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {نفس} هنا اسم الجنس وإفرادها لتبين لذهن السامع حقارتها وقلتها وضعفها عن منفعة ذاتها إلا من رحم الله تعالى، وقال كثير من المفسرين في معنى قوله تعالى: {ما قدمت وأخرت} إنها عبارة عن جميع الأعمال لأن هذا التقسيم يعم الطاعات المعمولة والمتروكة وكذلك المعاصي...
{علمت نفس ما قدمت وأخرت} وفيه احتمالان؛
(الأول): أن المراد بهذه الأمور ذكر يوم القيامة، ثم فيه وجوه؛
(أحدها): وهو الأصح أن المقصود منه الزجر عن المعصية، والترغيب في الطاعة، أي يعلم كل أحد في هذا اليوم ما قدم، فلم يقصر فيه وما أخر فقصر فيه، لأن قوله: {ما قدمت} يقتضي فعلا و {ما أخرت} يقتضي تركا، فهذا الكلام يقتضي فعلا وتركا وتقصيرا وتوفيرا، فإن كان قدم الكبائر وأخر العمل الصالح فمأواه النار، وإن كان قدم العمل الصالح وأخر الكبائر فمأواه الجنة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(علمت نفس ما قدمت وأخرت).. أي ما فعلته أولا وما فعلته أخيرا. أو ما فعلته في الدنيا، وما تركته وراءها من آثار فعلها. أو ما استمتعت به في الدنيا وحدها، وما ادخرته للآخرة بعدها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{علمت نفس ما أحضرت} في سورة التكوير (14)...
و {ما قدمت وأخرت}: هو العمل الذي قدمتْه النفس، أي عملته مقدماً وهو ما عملته في أول العمر، والعملُ الذي أخرته، أي عملته مؤخراً أي في آخر مدة الحياة، أو المراد بالتقديم المبادرة بالعمل، والمراد بالتأخير مقابله وهو ترك العمل. والمقصود من هذين تعميم التوقيف على جميع ما عملته ومثله قوله تعالى: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} في سورة لا أقسم بيوم القيامة (13). والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلوماً من قبل وبتذكر ما نُسي لطول المدة عليه...