مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{عَلِمَتۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ وَأَخَّرَتۡ} (5)

المقام الثالث : في تفسير قوله : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } وفيه احتمالان ( الأول ) : أن المراد بهذه الأمور ذكر يوم القيامة ، ثم فيه وجوه ( أحدها ) : وهو الأصح أن المقصود منه الزجر عن المعصية ، والترغيب في الطاعة ، أي يعلم كل أحد في هذا اليوم ما قدم ، فلم يقصر فيه وما أخر فقصر فيه ، لأن قوله : { ما قدمت } يقتضي فعلا و{ ما أخرت } يقتضي تركا ، فهذا الكلام يقتضي فعلا وتركا وتقصيرا وتوفيرا ، فإن كان قدم الكبائر وأخر العمل الصالح فمأواه النار ، وإن كان قدم العمل الصالح وأخر الكبائر فمأواه الجنة ( وثانيها ) : ما قدمت من عمل أدخله في الوجود وما أخرت من سنة يستن بها من بعده من خير أو شر ( وثالثها ) : قال الضحاك : ما قدمت من الفرائض وما أخرت أي ما ضيعت ( ورابعها ) : قال أبو مسلم : ما قدمت من الأعمال في أول عمرها وما أخرت في آخر عمرها ، فإن قيل : وفي أي موقف من مواقف القيامة يحصل هذا العلم ؟ قلنا : أما العلم الإجمالي فيحصل في أول زمان الحشر ، لأن المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر . وأما العلم التفصيل ، فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة .

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد قيل : قيام القيامة بل عند ظهور أشراط الساعة وانقطاع التكاليف ، وحين لا ينفع العمل بعد ذلك كما قال : { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } فيكون ما عمله الإنسان إلى تلك الغاية ، هو أول أعماله وآخرها ، لأنه لا عمل له بعد ذلك ، وهذا القول ذكره القفال .