قوله تعالى : { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } . سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وسورة الإخلاص . والواحد الذي لا نظير له ولا شريك له .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا بكر بن إبراهيم و أبو عاصم عن عبد الله بن أبي زياد ، عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) و( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . قال أبو الضحى : لما نزلت هذه الآية قال المشركون : إن محمداً يقول إن إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان من الصادقين . فأنزل الله عز وجل : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } .
وبعد أن حذر - سبحانه - من كتمان الحق ، عقب ذلك ببيان ما يدل على وحدانيته ، وعلى أنه هو المستحق للعبادة والخضوع فقال - تعالى - :
{ وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن . . . }
قوله : { وإلهكم إله وَاحِدٌ } معطوف على قوله : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا } عطف الققصة على القصة ، والجامع - كما قال الآلوسي - أن الأولى - وهي قوله : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } مسوقة لإِثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وجملة { وإلهكم إله وَاحِدٌ } لإثبات وحدانية الله - تعالى - .
والإِله في كلام العرب هو المعبود مطلقاً ولذلك تعددت الآله عندهم . والمراد به في الآية الكريمة المعبود بحق بدليل الإِخبار عنه بأنه واحد .
والمعنى : وإلهكم الذي يستحق العبادة والخضوع إله واحد فرد صمد ، فمن عبد شيئاً دونه ، أو عبد شيئاً معه ، فعبادته باطلة فاسدة ، لأن العبادة الصحيحة هي ما يتجه بها العابد إلى المعبود بحق الذي قامت البراهين الساطعة على وحدانيته وهو الله رب العالمين .
قال بعضهم : " والإِخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد ، والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط إله بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه ، كما تقول : عالم المدينة عالم فائق ، وليجيئ ما كان أصله خيراً مجيئ النعت فيفيد أنه وصف ثابت للموصوف لأنه صار نعتاً ، إذ أصل النعت أن يكون وصفاً ثابتاً ، وأصل الخبر أن يكون وصفاً حادثاً ، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبني عليه وصف أو متعلق كقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } وجملة { إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } مقررة لما تضمنته الجملة السابقة من أن الله واحد لا شريك له ، ونافية عن الله - تعالى - الشريك صراحه ، ومثبته له مع ذلك الإِلهية الحقة ، ومزيحة لما عسى أن يتوهم من أن في الوجود إلهاً سوى الله - تعالى - لكنه لا يستحق العبادة .
ومعناها : إن الله إله ، وليس شيء مما سواه بإله .
وهذه الجملة الكريمة خبر ثاني للمبتدأ وهو ( إلهكم ) أو صفة أخرى للخبر وه ( إله ) وخبر ( لا ) محذوف أي لا إله موجود إلا هو ، والضمير ( هو ) في موضع رفع بدل من موضع لامع اسمها .
وقوله : { الرحمن الرحيم } خبر متبدأ محذوف ، وقيل غير ذلك من وجوه الإِعراب .
والمعنى : وإلهكم الذي يستحق العبادة إله واحد ، لا إله مستحق لها إلا هو ، هو الرحمن الرحيم .
أي : المنعم بجلائل النعم ودقائقها ، وهو مصدر الرحمة ، ودائم الإِحسان .
وأتى - سبحانه - بهذين اللفظين في ختام الآية ، لأن ذكر الإِلهية والوحدانية يحضر في ذهن السامع معنى القهر والغلبة وسعة المقدرة وعزة السلطان ، وذلك مما يجعل القلب في هيبة وخشية ، فناسب أن يورد عقب ذلك ما يدل على أنه مع هذه العظمة والسلطان ، مصدر الإِحسان ومولى النعم ، فقال : { الرحمن الرحيم } وهذه طريقة القرآن في الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية ، حتى لا يعتريها اليأس أو القنوط .
بعد هذا يمضي السياق في إقامة التصور الإيماني على قاعدته الكبيرة . قاعدة التوحيد . ويعرض من مشاهد الكون ما يشهد بهذه الحقيقة شهادة لا تقبل الجدل . ثم يندد بمن يتخذون من دون الله اندادا ؛ ويصور موقفهم المتخاذل يوم يرون العذاب ، فيتبرأ بعضهم من بعض ؛ فلا ينفعهم هذا التبرؤ ، ولا تفيدهم حسراتهم ولا تخرجهم من النار .
( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم . إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون . ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ، والذين آمنوا أشد حبا لله . ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب . إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتبعوا : لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا ! كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، وما هم بخارجين من النار ) . .
إن وحدة الألوهية هي القاعدة الكبيرة التي يقوم عليها التصور الإيماني . فلم يكن هناك جدل حول الاعتقاد بوجود إله - تختلف التصورات حول ذاته وحول صفاته وحول علاقاته بالخلق ولكنها لا تنفي وجوده - ولم يقع أن نسيت الفطرة هذه الحقيقة ، حقيقة وجود إله ، إلا في هذه الأيام الأخيرة حين نبتت نابتة منقطعة عن أصل الحياة ، منقطعة عن أصل الفطرة ، تنكر وجود الله . وهي نابتة شاذة لا جذور لها في أصل هذا الوجود ؛ ومن ثم فمصيرها حتما إلى الفناء والاندثار من هذا الوجود . هذا الوجود الذي لا يطيق تكوينه ، ولا تطيق فطرته بقاء هذا الصنف من الخلائق المقطوعة الجذور !
لذلك اتجه السياق القرآني دائما إلى الحديث عن وحدة الألوهية ، بوصفها التصحيح الضروري للتصور ، والقاعدة الأساسية لإقامة هذا التصور . . ثم لإقامة سائر القواعد الأخلاقية والنظم الاجتماعية ، المنبثقة من هذا التصور . . تصور وحدة الألوهية في هذا الوجود :
( وإلهكم إله واحد ) . . ( لا إله إلا هو ) . . ( الرحمن الرحيم ) . .
ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد ، بشتى أساليب التوكيد ، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة ؛ وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك ؛ ويتوحد المصدر الذي يتلقى منه الخلق أصول الشرائع والقوانين ؛ ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق .
وهنا والسياق يستهدف إعداد الأمة المسلمة لدورها العظيم في الأرض ، يعيد ذكر هذه الحقيقة التي تكرر ذكرها مرات ومرات في القرآن المكي ، والتي ظل القرآن يعمق جذورها ويمد في آفاقها حتى تشمل كل جوانب الحس والعقل ، وكل جوانب الحياة والوجود . . . يعيد ذكر هذه الحقيقة ليقيم على أساسها سائر التشريعات والتكاليف . . ثم يذكر من صفات الله هنا : ( الرحمن الرحيم ) . . فمن رحمته السابغة العميقة الدائمة تنبثق كل التشريعات والتكاليف .
يُخبرُ تعالى عن تفرده بالإلهية ، وأنه لا شريك له ولا عَديل له ، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لا إله إلا هو وأنه الرحمن الرحيم . وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول السورة{[3023]} . وفي الحديث عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } و { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ آل عمران : 1 ، 2 ] " {[3024]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ لاّ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمََنُ الرّحِيمُ }
قد بينا فيما مضى معنى الألوهية وأنها اعتباد الخلق . فمعنى قوله : وإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمِ والذي يستحقّ عليكم أيها الناس الطاعة له ، ويستوجب منكم العبادة معبود واحد وربّ واحد ، فلا تعبدوا غيره ولا تشركوا معه سواه ، فإن من تشركونه معه في عبادتكم إياه هو خلق من خلق إلهكم مثلكم ، وإلهكم إله واحد ، لا مثل له ولا نظير .
واختلف في معنى وحدانيته تعالى ذكره ، فقال بعضهم : معنى وحدانية الله معنى نفي الأشباه والأمثال عنه كما يقال : فلان واحد الناس وهو واحد قومه ، يعني بذلك أنه ليس له في الناس مثل ، ولا له في قومه شبيه ولا نظير فكذلك معنى قول : الله واحد ، يعني به الله لا مثل له ولا نظير .
فزعموا أن الذي دلهم على صحة تأويلهم ذلك أن قول القائل واحد يفهم لمعان أربعة ، أحدها : أن يكون واحدا من جنس كالإنسان الواحد من الإنس ، والاَخر : أن يكون غير متفرّق كالجزء الذي لا ينقسم ، والثالث : أن يكون معنيا به المثل والاتفاق كقول القائل : هذان الشيئان واحد ، يراد بذلك أنهما متشابهان حتى صارا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد ، والرابع : أن يكون مرادا به نفي النظير عنه والشبيه . قالوا : فلما كانت المعاني الثلاثة من معاني الواحد منتفية عنه صحّ المعنى الرابع الذي وصفناه .
وقال آخرون : معنى وحدانيته تعالى ذكره معنى انفراده من الأشياء ، وانفراد الأشياء منه . قالوا : وإنما كان منفردا وحده ، لأنه غير داخل في شيء ولا داخل فيه شيء . قالوا : ولا صحة لقول القائل واحد من جميع الأشياء إلا ذلك .
وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعة التي قالها الاَخرون .
وأما قوله : لاَ إلهَ إلاّ هُوَ فإنه خبر منه تعالى ذكره أنه لا ربّ للعالمين غيره ، ولا يستوجب على العباد العبادة سواه ، وأن كل ما سواه فهم خلقه ، والواجب على جميعهم طاعته ، والانقياد لأمره ، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والاَلهة وهجر الأوثان والأصنام ، لأن جميع ذلك خلقه وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة ، ولا تنبغي الألوهة إلا له ، إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه دون ما يعبدونه من الأوثان ، ويشركون معه من الأشراك ، وما يصيرون إليه من نعمة في الاَخرة فمنه ، وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضرّ ولا ينفع في عاجل ولا في آجل ، ولا في دنيا ، ولا في آخرة .
وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهل الشرك به على ضلالهم ، ودعاء منه لهم إلى الأوبة من كفرهم ، والإنابة من شركهم .
ثم عرّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها موضع استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم ، فقال تعالى ذكره : أيها المشركون إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر من أن إلهكم إله واحد دون ما تدّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان ، فتدبروا حججي وفكروا فيها ، فإن من حججي : خلق السمَوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها ، وما بثثت فيها من كل دابة ، والسحاب الذي سخرته بين السماء والأرض . فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والاَلهة والأنداد وسائر ما تشركون به إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض يقدر على أن يخلق نظير شيء من خلقي الذي سميت لكم ، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذر ، وإلا فلا عذر لكم في اتخاذ إله سواي ، ولا إله لكم ولما تعبدون غيري . فليتدبر أولو الألباب إيجاز الله احتجاجه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده في هذه الآية وفي التي بعدها بأوجز كلام وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على معرفة فضل حكمة الله وبيانه .
معطوف على جملة : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } [ البقرة : 161 ] . والمناسبة أنه لما ذكر ما ينالهم على الشرك من اللعنة والخلود في النار بين أن الذي كفروا به وأشركوا هو إله واحد وفى هذا العطف زيادة ترجيح لما انتميناه من كون المراد من { الذين كفروا } المشركين لأن أهل الكتاب يؤمنون بإله واحد .
والخطاب بكاف الجمع لكل من يتأتى خطابه وقت نزول الآية أو بعده من كل قارىء للقرآن وسامع فالضمير عام ، والمقصود به ابتداء المشركون لأنهم جهلوا أن الإله لا يكون إلاّ واحداً .
والإله في كلام العرب هو المعبود ولذلك تعددت الآلهة عندهم وأطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه وهو إطلاق ناشىء عن الضلال في حقيقة الإله لأن عبادة من لا يغني عن نفسه ولا عن عابده شيئاً عبث وغلط ، فوصف الإله هنا بالواحد لأنه في نفس الأمر هو المعبود بحق فليس إطلاق الإله على المعبود بحق نقلاً في لغة الإسلام ولكنه تحقيق للحق .
وما ورد في القرآن من إطلاق جمع الآلهة على أصنامهم فهو في مقام التغليط لزعمهم نحو { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون } [ الأحقاف : 28 ] ، والقرينة هي الجمع ، ولذلك لم يطلق في القرآن الإله بالإفراد على المعبود بغير حق ، وبهذا تستغنى عن إكداد عقلك في تكلفات تكلفها بعض المفسرين في معنى { وإلهكم إله واحد } .
والإخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط لفظ { إله } بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه كما تقول عالم المدينة عالم فائق وليجيء ما كان أصله مجيء النعت فيفيد أنه وصف ثابت للموصوف لأنه صار نعتاً إذ أصل النعت أن يكون وصفاً ثابتاً وأصل الخبر أن يكون وصفاً حادثاً ، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبنى على وصف أو متعلق كقوله { إلها واحداً } [ البقرة : 133 ] . وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 27 ] وقد تقدم عند قوله تعالى : . . . والتنكير في { إله } للنوعية لأن المقصود منه تقرير معنى الألوهية ، وليس للإفراد لأن الإفراد استفيد من قوله { واحد } خلافاً لصاحب « المفتاح » في قوله تعالى : { إنما هو إله واحد } [ الأنعام : 19 ] إذ جعل التنكير في { إله } للإفراد وجعل تفسيره بالواحد بياناً للوحدة لأن المصير إلى الإفراد في القصد من التنكير مصير لا يختاره البليغ ما وجد عنه مندوحة .
وقوله : { لا إله إلا هو } تأكيد لمعنى الوحدة وتنصيص عليها لرفع احتمال أن يكون المراد الكمال كقولهم في المبالغة هو نسيج وحده ، أو أن يكون المراد إله المسلمين خاصة كما يتوهمه المشركون ألا ترى إلى قول أبي سفيان : « لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم » .
وقد أفادت جملة { لا إله إلا هو } التوحيد لأنها نفت حقيقة الألوهية عن غير الله تعالى . وخبر { لا } محذوف دل عليه ما في { لا } من معنى النفي لأن كل سامع يعلم أن المراد نفي هذه الحقيقة فالتقدير لا إله موجود إلاّ هو . وقد عرضت حيرة للنحاة في تقدير الخبر في هاته الكلمة لأن تقدير موجود يوهم أنه قد يوجد إله ليس هو موجوداً في وقت التكلم بهاته الجملة ، وأنا أجيب بأن المقصود إبطال وجود إله غير الله رداً على الذين ادعوا آلهة موجودة الآن وأما انتفاء وجود إله في المستقبل فمعلوم لأن الأجناس التي لم توجد لا يترقب وجودها من بعد لأن مثبتي الآلهة يثبتون لها القدم فلا يتوهم تزايدها ، ونسب إلى الزمخشري أنه لا تقدير لخبر هنا وأن أصل لا إله إلا هو هو إله فقدم { إله } وأخر ( هو ) لأجل الحصر بإلاّ وذكروا أنه ألف في ذلك « رسالة » ، وهذا تكلف والحق عندي أن المقدرات لا مفاهيم لها فليس تقدير لا إله موجود بمنزلة النطق بقولك لا إله موجود بل إن التقدير لإظهار معاني الكلام وتقريب الفهم وإلاّ فإن لا النافية إذا نفت النكرة فقد دلت على نفي الجنس أي نفي تحقق الحقيقة فمعنى { لا إله } انتفاء الألوهية { إلاّ الله } أي إلاّ لله .
وقوله : { الرحمن الرحيم } وصفان للضمير ، أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها وهما وصفان للمدح وفيهما تلميح لدليل الألوهية والانفراد بها لأنه منعم ، وغيره ليس بمنعم وليس في الصفتين دلالة على الحصر ولكنهما تعريض به هنا لأن الكلام مسوق لإبطال ألوهية غيره فكان ما يذكر من الأوصاف المقتضية للألوهية هو في معنى قصرها عليه تعالى ، وفي الجمع بين وصفي { الرحمن الرحيم } ما تقدم ذكره في سورة الفاتحة على أن في ذكر صفة الرحمن إغاظة للمشركين فإنهم أبوا وصف الله بالرحمن كما حكى الله عنهم بقوله : { قالوا وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] .
واعلم أن قوله : { إلا هو } استثناء من الإله المنفي أي إن جنس الإله منفي إلاّ هذا الفرد ، وخبر ( لا ) في مثل هاته المواضع يكثر حذفه لأن لا التبرئة مفيدة لنفي الجنس فالفائدة حاصلة منها ولا تحتاج للخبر إلاّ إذا أريد تقييد النفي بحالة نحو لا رجل في الدار غير أنهم لما كرهوا بقاء صورة اسم وحرف بلا خبر ذكروا مع اسم لا خبراً ألا ترى أنهم إذا وجدوا شيئاً يسد مسد الخبر في الصورة حذفوا الخبر مع لا نحو الاستثناء في لا إله إلاّ الله ، ونحو التكرير في قوله لا نسب اليوم ولا خُلة . ولأبي حيان هنا تكلفات .