غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ} (163)

163

التفسير : الواحد قد يكون اسماً وذلك في العدد واحد ، اثنان ، ثلاثة . وقد يكون صفة كقولك " شخص واحد " ومعناه أنه لا ينقسم من جهة ما قيل : له إنه واحد . فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان ، لأن الإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم إلى إنسانين ، بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء وذلك من جهة أخرى . ثم زعم قوم أن الواحدية صفة زائدة على الذات لأن الجوهر قد يشارك العرض في كونه واحداً لا يشاركه في كونه جوهراً فقط ، ولأنه يصح تعقل الجوهر مع الذهول عن كونه واحداً ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، ولأن قولنا " الجوهر واحد " ليس يجري مجرى قولنا " الجوهر جوهر " ولأن مقابل الجوهر العرض ، ومقابل الواحد هو الكثير . ثم المفهوم من كونه واحداً أمر ثبوتي لأنه لو كان سلبياً لكان سلباً للكثرة . فإن كانت الكثرة سلبية وسلب السلب ثبوت فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب ، وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فإن كانت الوحدة سلبية حصل من الأمور المعدومة أمر موجود وهو محال ، فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية . ثم إنه لا يمكن أن يقال : إنه لا تحقق لها إلا في الذهن لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحداً في نفسه قبل أن يوجد في ذهننا واعتبارنا فثبت أن كون الشيء واحداً صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات . والجواب أن كون الشيء واحداً في ذاته معناه كونه بحيث يصح أن يدرك الذهن منه معنى الوحدة ، وهذه الحيثية لا تتوقف على حصول الذهن في الخارج . ثم إن الوحدة لو كانت صفة زائدة على الذات كانت الوحدات متساوية في ماهية الوحدة ومتباينة بتعيناتها ، فيكون للوحدة وحدة أخرى وهلم جرا وذلك محال ، ثم إن شيئاً من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد ، فإن العشرة الواحدة يعرض لها الوحدة من حيث هي عشرة واحدة .

فإن قلت : عشر ثانٍ فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت لها الوحدة من هذه الجهة ، فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة . ولكن الوحدة تغاير الوجود لأن الموجود ينقسم إلى الواحد ، والكثير والمنقسم إلى شيئين : مغاير لما به الانقسام . والواحد الحق سبحانه وتعالى واحد باعتبارين : أحدهما أن ذاته ليست مركبة من أمور كثيرة بل ولا من أمرين أيضاً وإليه الإشارة بقوله { إلهكم إله واحد } والخطاب للممكنات بأسرهم . والتذكير لتغليب ذوي العقول الذكور ، وثانيهما أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب وفي كونه مبدأ لجميع الممكنات وهو المراد بقوله { لا إله إلا هو } ويمكن أن يقال : القرينتان تدلان على نفي الشريك إلا أن الأولى منهما تدل على إثبات وحدته في الإلهية بالمطابقة . ويلزم منه نفي الشريك كقولك " هو سيد واحد " تريد الوحدة في السيادة ، فيلزم نفي أن يكون غيره سيداً . والقرينة الثانية تدل على نفي الشريك بالمطابقة . ثم على إثبات المعبودية بالحق فمعناه لا إله في الوجود إلا هو . وفيه نكتة شريفة وهي أن إثبات الحق وقع في كلتا القرينتين بالمطابقة ليعلم أنه المقصد الأسنى والغاية القصوى . وتحقيقه أن العارف له رجوع وعروج ، وذلك أنه قد يفنى في عالم اللاهوت ويبقى ببقاء الحي الذي لا يموت ، ويطالع عالم الشهود فيلزمه حينئذ نفي ما سوى الحق . وإذا رجع إلى عالم الناسوت ضرورة وجب عليه نفي كل من سواه حتى يعرج إلى المقصود . فهذا سر عكس الترتيب في القرينتين ، ولأن الأولى مرتبة الصديقين السابقين فلا جرم وقع التكليف بالترتيب الأخير " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " . ثم البرهان العقلي على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه لا يجمعه أجزاء مقدارية كما للأجسام ، ولا يحصره أجزاء معنوية كما في البسائط النوعية ، ولا أجزاء اعتبارية كما في البسائط الجنسية ، هو أن كل مركب فإنه يفتقر في تحققه أجزائه ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجب الوجود لذاته . وأيضاً فكل ممكن فإن وجوده زائد على ماهيته في العقل والاعتبار فإنه يمكن تصور الممكن من حيث إنه ممكن مع الشك في وجوده الخارجي . ولكن لا يمكن تعقل الواجب من حيث إنه واجب مع الشك في وجوده ، ولا نعني بكون الوجود زائداً على الماهية وغير زائد إلا هذا . وأما أنه تعالى وحده لا شريك له فلأن وجوب الوجود يقتضي أن لا يكون الواجب لذاته مفتقراً في شيء إلى شيء أصلاً ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان في غاية الكمال ونهاية الجلال والجمال ، ولا ريب أن من كمالات الجميل كونه عديم النظير . ومن تحقق معنى وجوب الوجود بنور الباطن وصفاء الضمير لم يشك في وجوده تعالى ولا في أن واجب الوجود من جميع جهاته ، وواجب الوجود في جميع صفاته ، وواحد بجميع اعتباراته حتى عن حمل الوحدة عليه وعن تصور ذاته . وههنا حالة عجيبة ، فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة ، فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة . فاعرف هذه الأسرار لتتخلص عن ظلمات شبهات الأشرار وتفوز بمقامات الأبرار وتستغرق في بحار عالم الأنوار بعون الملك الجبار وشروق أنوار الواحد القهار . ولك أن تقول : إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له . أما أنه واحد في ذاته فلأنه لو شاركه غيره في حقيقته لزم تركبه مما به الاشتراك وما به الامتياز ، وكل مركب مفتقر ، وكل مفتقر ممكن . وأما أنه واحد في صفاته فلأن صفات غيره من غيره وصفاته من نفسه ، ولأن صفات غيره زمانية دون صفاته ولأن صفات غيره متناهية وصفاته غير متناهية كعلمه مثلاً ، فإن له معلومات غير متناهية بل له في كل معلوم علوم غير متناهية بحسب أحياز ذلك المعلوم وأوقاته وسائر أحواله ، ولأن موصوفية ذاته بالصفات ليست بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذات محلاً لها ، ولا بمعنى أن ذاته تستكمل بها لأن ذاته كالمبدأ لتلك الصفات ولن يستكمل المبدأ بما عن المبدأ بل ذاته مستكملة بذاته . ومن لوازم ذلك الاستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال ، وقد يفضي التقرير ههنا إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به ، وتلك أنه لا خبر عند العقول من صفاته كما أنه لا خبر عندها من ذاته ، فإنا لا نعرف من علمه إلا أنه الآمر الذي لأجله ظهر الأحكام والإتقان في المخلوقات ، كما أنا لا نعلم من ذاته إلا أنه مبدأ جميع الممكنات . من طبع على قلبه مني بالخذلان ، ومن كشف له الغطاء صار حيران فلا إحاطة للقطرة بكرة الماء ، ولا ظهور لضوء السهى عند حلول الشمس .

كبد السماء أشتاقه فإذا بدا *** أطرقت من إجلاله

لا خيفة بل هيبة *** وصيانة لجماله

فالموت في إدباره *** والعيش في إقباله

وأصدّ عنه إذا بدا *** وأروم طيف خياله

وأما أنه واحد في أفعاله فلأن ما سواه ممكن الوجود لذاته ، وبقدر البون بين الواجب للذات والممكن للذات يوجد التفاوت بين فعليهما إن فرض للممكن فعل من نفسه

{ الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } [ الروم : 40 ] ثم إنه تعالى خص الموضع بذكر الرحمان الرحيم ، لأن الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو ، فقعبهما بذكر الصفتين ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية وإشعاراً بأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان .