{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً } فى هذه الدنيا { فَلاَ يجزى } فى الآخرة { إِلاَّ مِثْلَهَا } كرما من الله - تعالى - وعدلا .
{ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله - تعالى - إيمانا حقا .
{ فأولئك } المؤمنون الصادقون { يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أى : يرزقون فيها رزقا واسعا هنيئا ، لا يعلم قدره إلا الله - تعالى - ، ولا يحاسبهم عليه محاسب فقد تفضل - سبحانه - على عباده . أن يضاعف لهم الحسنات دون السيئات .
ويقرر لهم قاعدة الحساب والجزاء في دار القرار :
( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها . ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) . .
فقد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات ، رحمة من الله بعباده ، وتقديراً لضعفهم ، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة ، فضاعف لهم الحسنات ، وجعلها كفارة للسيئات . فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب ، رزقهم الله فيها بغير حساب .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
يقول : من عمل بمعصية الله في هذه الحياة الدنيا ، فلا يجزيه الله في الاَخرة إلا سيئة مثلها ، وذلك أن يعاقبه بها وَمَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى يقول : ومن عمل بطاعة الله في الدنيا ، وأتمر لأمره ، وانتهى فيها عما نهاه عنه من رجل أو امرأة ، وهو مؤمن بالله فأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ يقول : فالذين يعملون ذلك من عباد الله يدخلون في الاَخرة الجنة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلا يُجْزَى إلاّ مِثْلَها أي شركا ، «السيئة عند قتادة شرك » وَمَنْ عَمِلَ صَالِحا ، أي خيرا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُوءْمِنٌ .
وقوله : يُرْزَقُونَ فِيها بغَيْرِ حِسابٍ يقول : يرزقهم الله في الجنة من ثمارها ، وما فيها من نعيمها ولذّاتها بغير حساب ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يُرْزَقُونَ فِيها بغَيْرِ حِسابٍ قال : لا والله ما هناكم مكيال ولا ميزان .
وجملتا { مَنْ عَمِلَ سَيِئَةً } إلى آخرهما بيان لجملة { وإنَّ الآخِرَة هِيَ دَارُ القَرارِ } والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله { وَإِنَّ الآخِرَة هي دَارُ القَرارِ } قصرُ قلْبٍ نظير القصر في قوله : { إنَّما هَذهِ الحَياةُ الدُّنْيا متاع } ، وهو مؤكد للقصر في قوله : { إنَّما هَذهِ الحَياةُ الدُّنْيا متاع } من تأكيد إثبات ضد الحكم لضد المحكوم عليه ، وهو قصر قلب ، أي لاَ الدنيا . ( ومَنْ ) من قوله : { مَنْ عَمِلَ سَيِئةَ } شرطية . ومعنى { إلاَّ مِثْلَهَا } المماثلة في الوصف الذي دل عليه اسم السيّئة وهو الجزاء السّيّء ، أي لا يجزي عن عمل السوء بجزاء الخير ، أي لا يطمعوا أن يعلموا السيئات وأنهم يجازَون عليها جزاءَ خير . وفي « صحيح البخاري » عن وهب بن منبه وكان كثير الوعظ للناس فقيل له ، إنك بوعظك تقنط الناس فقال : « أأنا أقدر أن أقنط الناس والله يقول : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] ولكنكم تُحبون أن تُبشَّروا بالجنة على مساوي أعمالكم » . وكأن المؤمن خصّ الجزاء بالأعمال لأنهم كانوا متهاونِين بالأعمال وكان قصارى ما يهتمون به هو حسن الاعتقاد في الآلهة ، ولذلك توجد على جُدر المعابد المصرية صورة الحساب في هيئة وضع قلب الميت في الميزان ليكون جزاؤه على ما يفسر عنه ميزان قلبه .
ولذلك ترى مؤمن آل فرعون لم يهمل ذكر الإِيمان بعد أن اهتم بتقديم الأعمال فتراه يقول : { ومَنْ عَمِلَ صالحا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، فالإِيمان هو أُسٌّ هيكل النجاة ، ولذلك كان الكفر أُسَّ الشقاء الأبدي فإن كل عمل سيّء فإن سُوءه وفساده جُزئي مُنقَضضٍ فكان العقاب عليه غير أبدي ، وأما الكفر فهو سيئة دائمة مع صاحبها لأن مقرّها قلبه واعتقاده وهو ملازم له فلذلك كان عقابه أبدياً ، لأن الحكمة تقتضي المناسبة بين الأسباب وآثارها فدل قوله : { فَلاَ يُجْزَىَ إلاَّ مِثلها } أن جزاء الكفر شقاء أبدي لأن مِثْل الكفر في كونه ملازماً للكافر إِن مات كافراً .
وبهذا البيان أبطلنا قول المعتزلة والخوارج بمساواة مرتكب الكبائر للكافر في الخلود في العذاب ، بأنه قول يفضي إلى إزالة مزية الإِيمان ، وذلك تنافيه أدلة الشريعة البالغة مبلغ القطع ، ونظير هذا المعنى قوله تعالى : { فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 13 17 ] .
وترتيبه دخول الجنة على عمل الصالحات معناه : من عمل صالحاً ولم يعمل سيئة بقرينة مقابلته بقوله : { مَنْ عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } ، فإنْ خلَط المؤمن عملاً صالحاً وسيئاً فالمقاصة ، وبيانه في تفاصيل الشريعة .
وقوله : { بِغَيْرِ حِسابٍ } كناية على سعة الرزق ووفرته كما تقدم عند قوله تعالى : { إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب } في سورة [ آل عمران : 37 ] .
و { مَن } في قوله : { وَمَنْ عَمِلَ صالحا } الخ شرطية ، وجوابها { فأولئك يَدْخُلون الجنَّة } . وجيء باسم الإشارة لِلتنبيه على أن المشار إليه يستحق ما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجْل ما ذكر قبل اسم الإشارة من الأوصاف ، وهي عمل الصالحات مع الإِيمان زيادة على استفادة ذلك من تعليقه على الجملة الشرطية . وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة جواب الشرط لإِفادة الحصر . والمعنى : أنكم إن متم على الشرك والعمل السيّىء لا تدخلونها .
وقوله : { مِنْ ذَكَرٍ أوْ أنثى } بيان لما في { مَنْ من الإِبهام من جانب احتمال التعميم فلفظ ذَكَرٍ أو أنثى } مراد به عموم الناس بذكر صنفيهم تنصيصاً على إرادة العموم ، وليس المقصود به إفادة مساواة الأنثى للذكر في الجزاء على الأعمال إذ لا مناسبة له في هذا المقام ، وتعريضاً بفرعون وخاصته أنهم غير مُفلَتين من الجزاء .
وقرأ الجمهور { يَدْخُلونَ الجَنَّة } بفتح الياء . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بضمها وفتح الخاء ، والمعنى واحد .