مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (40)

ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة ، وأشار فيه إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب فقال : { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } والمراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق ، فإن قيل كيف يصح هذا الكلام ، مع أن كفر ساعة يوجب عقاب الأبد ؟ قلنا إن الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة وإيمانا فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصرا على ذلك الاعتقاد أبدا ، فلا جرم كان عقابه مؤبدا بخلاف الفاسق فإنه يعتقد فيه كونه خيانة ومعصية فيكون على عزم أن لا يبقى مصرا عليه ، فلا جرم قلنا إن عقاب الفاسق منقطع . أما الذي يقوله المعتزلة من أن عقابه مؤبد فهو باطل ، لأن مدة تلك المعصية منقطعة والعزم على الإتيان بها أيضا ليس دائما بل منقطعا فمقابلته بعقاب دائم يكون على خلاف قوله { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } ، واعلم أن هذه الآية أصل كبير في علوم الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات فإنها تقتضي أن يكون المثل مشروعا ، وأن يكون الزائد على المثل غير مشروع ، ثم نقول ليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرة في أي الأمور فلو حملناه على رعاية المماثلة في شيء معين ، مع أن ذلك المعين غير مذكور في الآية صارت الآية مجملة ، ولو حملناه على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عاما مخصوصا ، وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال وبين التخصيص كان دفع الإجمال أولى فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا في مواضع التخصيص ، وإذا ثبت هذا فالأحكام الكثيرة في باب الجنايات على النفوس ، وعلى الأعضاء ، وعلى الأموال يمكن تفريعها على هذه الآية .

ثم نقول إنه تعالى لما بين أن جزاء السيئة مقصور على المثل بين أن جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خارج عن الحساب فقال : { ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب } واحتج أصحابنا بهذه الآية فقالوا قوله { ومن عمل صالحا } نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجرى مجرى أن يقال من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا فإنه يدخل فيه كل من أتى بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة ، فكذلك هاهنا وجب أن يقال كل من عمل صالحا واحدا من الصالحات فإنه يدخل الجنة ويرزق فيها بغير حساب ، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات وبأحسن الطاعات ، فوجب أن يدخل الجنة والخصم يقول إنه يبقى مخلدا في النار أبد الآباد فكان ذلك على خلاف هذا النص الصريح . قالت المعتزلة إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمنا وصاحب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن فلا يدخل في هذا الوعد والجواب : أنا بينا في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } أن صاحب الكبيرة مؤمن فسقط هذا الكلام ، واختلفوا في تفسير قوله { يرزقون فيها بغير حساب } فمنهم من قال لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل بغير حساب ، وقال الآخرون لأنه تعالى يعطيهم ثواب أعمالهم ويضم إلى ذلك الثواب من أقسام التفضل ما يخرج عن الحساب وقوله { بغير حساب } واقع في مقابلة { إلا مثلها } يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير ، لئلا يزيد على الاستحقاق ، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة ، وأقول هذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجح على جانب القهر والعقاب ، فإذا عارضنا عمومات الوعد بعمومات الوعيد ، وجب أن يكون الترجيح بجانب عمومات الوعد وذلك يهدم قواعد المعتزلة .