اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (40)

ثم قال : { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } تقدم الخلاف في قوله : «يدخلون الجنة » في سورة النساء{[48242]} . وقال مقاتل : لا تبعة عليهم فيما يُعْطَوْنَ في الجنة من الخيرات .

واختلفوا في تفسير قوله : «بِغَيْرِ حِسَابٍ » فقيل : لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل : بغير حساب ، وقيل : لأنه تعالى معطيهم ثواب آبائِهِمْ ، ويضم إلى ذلك الثواب من التفضيل ما يخرج من الحساب واقع في مقابلة : «إلاّ مثلها » يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير ، لئلا يزيد على الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وغير حساب ، وهذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجحٌ على جانب العقاب ، فإذا عارضنا عُمُومَاتِ الوَعِيدِ بعُمُومَاتِ الوَعْد وجب أن يكون الترجيحُ لجانبِ عُمُومَاتِ الوعد ، وذلك يهدم قواعد المعتزلة{[48243]} .

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية ، فقالوا : قوله : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً } نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات{[48244]} فجَرَى مَجْرَى أن يقال : «من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا » فإنه يدخل فيه أنّ من آمن بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة فكذلك هاهنا وجب أن يقال : كُلُّ من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة ، ويُرْزَقُ فيها بغير حساب ، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتنزيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الطاعات{[48245]} ، وبأحسن الطاعات ، فوجب أن يدخل الجنة ، والخصم يقول : إنه يَخْلُدُ في النار أَبَدَ الآباد ، وذلك مخالف لهذا النص الصريح . قالت المعتزلة : إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً ، ومرتكب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن ، فلا يدخل في هذا الوعد والجواب ما تقدم في قوله : «يُؤْمِنُون بالغَيْبِ » فإن صاحب الكبيرة مؤمن فَسَقَطَ كلامُهُمْ{[48246]} .

فصل

دلت هذه الآية على اعتبار المماثلة في الشريعة ، وأن الزائد على المِثْلِ غير مشروع ، وليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرةٌ في أي الأمور ، فلو حملناها على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عامةً خاصة . وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال والتخصيص كان الأول أولى ، فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا ما خَصّهُ الدليل وإذا ثبت ذلك بني عليه أحكامٌ كثيرة من الجنايات على النفوس والأعضاء والأموال ؛ لأنه تعالى بين أنَّ جزاءَ السيئة مقصورٌ على المِثْلِ ، وبين أن جزاء الحسنة ليس مقصوراً على المِثْلِ بل هو خارج عن الحساب{[48247]} .


[48242]:يشير إلى قوله عز وعلا من تلك السورة: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أثنى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا}. الآية 124، فقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة والكسائي بالبناء للفاعل في هذه السورة وفي النساء والباقون بضم الياء على البناء للمجهول بخلاف عن البعض في بعض المواقع وهي قراءة تواترية انظر السبعة لابن مجاهد 237، 238 و571 والنشر 2/365.
[48243]:الرازي في تفسيره 27/69.
[48244]:وتدل على العموم والشمول.
[48245]:كذا في النسختين وفي الرازي: "الصالحات".
[48246]:انظر الرازي المرجع السابق.
[48247]:قاله الإمام الرازي بالمعنى في تفسيره 27/69.