نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (40)

ولما حرك الهمم بهذا الوعظ إلى الإعراض عن دار الأنكاد والأمراض ، والإقبال على دار الجلال والجمال بخدمة ذي العز والكمال ، قال في جواب من سأل عن كيفية ذلك ما حاصله أنه بالإقبال على محاسن الأعمال ، وترك السيء من الخلال ، واصلاً بذلك على طريق البيان للبيان ، ذاكراً عاقبة كل ليثبط عما يتلف ، وينشط لما يزلف ، مشيراً إلى جانب الرحمة أغلب ، مقدماً لما هم عليه من السوء محذراً منه ليرجعوا { من عمل سيئة } أي ما يسوء من أي صنف كان : الذكور والإناث والمؤمنين والكافرين { فلا يجزى } أي من الملك الذي لا ملك سواه { إلا مثلها } عدلاً لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها ويدخل النار إن لم يكن له ما يكفرها ، فهذا هو الملك الذي ينبغي الإقبال على خدمته لكونه الحكم العدل القادر على الجزاء والمساواة في الجزاء ، فالكافر لما كان على عزم إدامه الكفر كان عذابه دائماً ، والفاسق لما كان على نية التوبة لاعتقاده أنه في معصية وشر كان عذابه منقطعاً ، والآية على عمومها ، وما خرج منها بدليل كان مخصوصاً فيخرج عليها جميع باب الجنايات وغيره ، ومن قال : إنها في شيء معين ، لزمه أن تكون مجملة ، لأن ذاك المعين غير مذكور ، والتخصيص أولى من الإجمال كما قال أهل الأصول .

ولما بين العدل في العقاب ، بين الفضل في الثواب ، تنبيهاً على أن الرحمة سبقت الغضب فقال : { ومن عمل صالحاً } أي ولو قل . ولما كان من يعهدون من الملوك إنما يستعملون الأقوياء لاحتياجهم ، بين أنه على غير ذلك لأنه لا حاجة به أصلاً فقال : { من ذكر أو أنثى } ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان قال مبيناً شرطه : { وهو } أي عمل والحال أنه { مؤمن } ولما كان في مقام الترغيب في عدله وجوده وفضله ، جعل الجزاء مسبباً عن الأعمال فقال : { فأولئك } أي العالو الهمة والمقدار { يدخلون الجنة } أي بأمر من له الأمر كله بعد أن ضاعف لهم أعمالهم فضلاً ، والآية من الاحتباك : ذكر المساواة أولاً عدلاً يدل على المضاعفة ثانياً فضلاً ، وذكر إدخال الجنة ثانياً يدل على إدخال النار أولاً ، وسره أنه ذكر فضله في كل من الشقين { يرزقون فيها } أي من غير احتياج إلى تحول أصلاً ولا إلى أسباب ، ولعل ذلك من أسرار البناء للمفعول { بغير حساب * } لخروج ما فيها بكثرته عن الحصر ، فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء ، وهذا من باب الفضل ، وفضل الله لا حد له ، ورحمته غلبت غضبه ، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل ، فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم ، قال الأصبهاني : فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد لسبق الرحمة الغضب ، فأنهدمت قواعد المعتزلة .