ثم بين - سبحانه - أحوال الناس فى السراء والضراء وعندما يوسع الله - تعالى - فى أرزاقهم ، وعندما يضيق عليهم هذه الأرزاق ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا مَسَّ الناس . . . لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
أى : { وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ } من قحط أو مصيبة فى المال أو الولد ، { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } أى : إذا نزل بهم الضر ، أسرعوا بالدعاء إلى الله - تعالى - متضرعين إليه أن يكشف عنهم ما نزل بهم من بلاء .
هذا حالهم عند الشدائد والكروب ، أما حالهم عند العافية والغنى وتفريج الهموم ، فقد عبر عنه - سبحانه - بقوله : { ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } .
و { إِذَآ } الأولى شرطية ، والثانية فجائية .
أى : هم بمجرد نزول الضر بهم يلجأون إلى الله - تعالى - لإزالته ، ثم إذا ما كشفه عنهم ، وأحاطهم برحمته ، أسرع فريق منهم بعباده غيره - سبحانه - .
وقوله - تعالى - : { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } : إنصاف وتشريف لفريق آخر من الناس ، من صفاتهم أنهم يذكرون الله - تعالى - فى كل الأحوال ، ويصبرون عند البلاء ، ويشكرون عند الرخاء .
التنكير فى قوله - سبحانه - " ضر ، ورحمة " للإِشارة إلى أن هذا النوع من الناس يجزعون عند أقل ضر ، ويبطرون ويطغون لأدنى رحمة ونعمة .
( وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ، ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ، ليكفروا بما آتيناهم ، فتمتعوا فسوف تعلمون . أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ? وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها ، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون . أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ? إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) . .
إنها صورة للنفس البشرية التي لا تستمد من قيمة ثابتة ، ولا تسير على نهج واضح . صورة لها وهي تتأرجح بين الانفعالات الطارئة ، والتصورات العارضة ، والاندفاعات مع الأحداث والتيارات . فعند مس الضر يذكر الناس ربهم ، ويلجأون إلى القوة التي لا عاصم إلا إياها ، ولا نجاة إلا بالإنابة إليها . حتى إذا انكشفت الغمة ، وانفرجت الشدة ، وأذاقهم الله رحمة منه : ( إذا فريق منهم بربهم يشركون ) . .
يقول تعالى مخبرًا عن الناس إنهم في حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له ، وأنه إذا أسبغ عليهم النعم ، إذا فريق منهم [ أي ]{[22855]} في حالة الاختبار يشركون بالله ، ويعبدون معه غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ دَعَوْاْ رَبّهُمْ مّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا مسّ هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر ضُرّ ، فأصابتهم شدة وجدوب وقحوط دَعَوْا رَبّهُمْ يقول : أخلصوا لربهم التوحيد ، وأفردوه بالدعاء والتضرّع إليه ، واستغاثوا به منيبين إليه ، تائبين إليه من شركهم وكفرهم ثُمّ إذَا أذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً يقول : ثم إذا كشف ربهم تعالى ذكره عنهم ذلك الضرّ وفرّجه عنهم وأصابهم برخاء وخصب وسعة ، إذا فريق منهم يقول : إذا جماعة منهم بربهم يشركون يقول : يعبدون معه الاَلهة والأوثان .
هذا ابتداء إنحاء على عبدة الأصنام المشركين بالله عز وجل غيره بين الله تعالى لهم أنهم كسائر البشر في أنهم إذا مسهم { ضر دعوا الله } وتركوا الأصنام مطرحة ولهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع ، ف { إذا أذاقهم } رحمته أي باشرهم أمره بها ، والذوق مستعار ، إذا طائفة تشرك به أصناماً ونحو هذا ، و { إذا } للمفاجأة فلذلك صلحت في جواب { إذا } الأولى بمنزلة الفاء وهذه الطائفة هي عبدة الأصنام .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويحلق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين إذا جاءهم فرج بعد شدة فعلقوا ذلك بمخلوقين أو بحذق آرائهم وغير ذلك لأن فيه قلة شكر لله تعالى ، ويسمى تشريكاً مجازاً .
عطف على جملة { فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً } [ الروم : 32 ] أي فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ، وإذا مسهم ضر فدعوا الله وحده فرحمهم عادوا إلى شركهم وكفرهم نعمة الذي رحمهم . فالمقصود من الجملة هو قوله : { ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون } ، فمحل انتظامه في مذام المشركين أنهم يرجعون إلى الكفر ، بخلاف حال المؤمنين فإنهم إذا أذاقهم الله رحمة بعد ضر شكروا نعمة ربهم وذلك من إنابتهم إلى الله . ونُسِجَ الكلام على هذا الأسلوب ليكون بمنزلة التذييل بما في لفظ { الناس } من العموم وإدماجاً لفضيلة المؤمنين الذين لا يكفرون نعمة الرحيم . فالتعريف في { الناس } للاستغراق .
والضُرّ ، بضم الضاد : سوء الحال في البدن أو العيش أو المال ، وهذا نحو ما أصاب قريشاً من الشدة والقحط حتى كانوا يرون في الجو مثل الدخان من شدة الجفاف ، وحتى أكلوا العظام والميتة ، وقد أصاب ذلك مشركيهم ومؤمنيهم وكانت شدته على المشركين لأنهم كانوا في رفاهية ، فالشدة أقوى عليهم ، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشفعون به أن يدعو الله بكشف الضر عنهم فدعا فأمطروا فعادوا إلى ترفهم ، قال تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } [ الدخان : 10 ] الآيات ، فدعاؤهم ربهم يشمل طلبهم أن يدعو لهم الرسول صلى الله عليه وسلم و { منيبين } حال من الناس كلهم أي استووا في الإنابة إليه أي راجعين إليه بعد ، واشتغل المشركون عنه بدعاء الأصنام ، قال تعالى : { إنَّا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون } [ الدخان : 15 ] . وتقدم { مُنيبين } آنفاً .
والمس : مستعار للإصابة . وحقيقة المس : أنه وضع اليد على شيء ليعرف وجوده أو يختبر حاله ، وتقدم في قوله { ليمسَنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم } في العقود ( 73 ) . واختير هنا لما يستلزمه من خفة الإصابة ، أي يدعون الله إذا أصابهم خفيف ضُر بَلْهَ الضرّ الشديد .
والإذاقة : مستعارة للإصابة أيضاً . وحقيقتها : إصابة المطعوم بطَرَف اللسان وهي أضعف إصابات الأعضاء للأجسام فهي أقلّ من المضغ والبلع ، وتقدم في قوله تعالى { لِيَذُوق وبال أمْره } في سورة العقود ( 95 ) ، { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء } في سورة يونس ( 21 ) . واختير فعل الإذاقة لما يدل عليه من إسراعهم إلى الإشراك عند ابتداء إصابة الرحمة لهم .
والرحمة : تخليصهم من الشدّة . و{ ثمّ } للتراخي الرتبي لأن إشراكهم بالله بعد الدعاء والإنابة وحصول رحمته أعجب من إشراكهم السابق ، ففي التراخي الرتبي معنى التعجيب من تجدد إشراكهم ، وحَرْف المفاجأة { إذا } يفيد أيضاً أن هذا الفريق أسرعوا العودة إلى الشرك بحدثان ذوق الرحمة لتأصل الكفر منهم وكمونه في نفوسهم .
وضمير { منه } عائد إلى الله تعالى . و { مِن } ابتدائية متعلقة ب { أصابهم . } و { رحمة } فاعل { أصابهم } ولم يؤنث لها الفعل لأن تأنيث مسمى الرحمة غير حقيقي ولأجل الفصل بالمجرور . وتقديم المجرور على الفاعل للاهتمام به ليظهر أن الذي أصابهم هو من فضل الله وتقديره لا غير ذلك .