قوله تعالى : { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا } لا مرية ولا ريب في إيمانهم ، قيل : حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد ، وبذل المال في الدين .
قوله تعالى : { لهم مغفرة ورزق كريم } في الجنة . فإن قيل : أي معنى في تكرار هذه الآية ؟ قيل : المهاجرون كانوا على طبقات : فكان بعضهم أهل الهجرة الأولى ، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ، وبعضهم أهل الهجرة الثانية ، وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة ، وكان بعضهم ذا هجرتين هجرة الحبشة والهجرة إلى المدينة ، فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ، ومن الثانية الهجرة الثانية .
وقوله - تعالى - { والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار .
إذ أن الآية الأولى من هذه الآيات الكريمة قد ساقها الله - تعالى - لإيجاب التواصل بينهم ، أما هذه الآية فقد ساقها سبحانه - للثناء عليهم والشهادة لهم بأنهم هم المؤمنون حق الايمان وأكمله ، بخلاف من أقام من المؤمنين بدار الشرك ، مع الحاجة إلى هجرته وجهاده .
قال الفخر الرازى : أثنى الله - تعالى - على المهاجرين والأنصار من ثلاثة أوجه :
أولها - قوله : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } فإن هذه الجملة تفيد المبالغة في مدحهم ، حيث وصفهم بكونهم محقين في طريق الدين .
وقد كانوا كذلك ، لأن من لم يكن محقا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل والوطن ، ولم يبذل النفس والمال .
وثانيها - قوله : { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ } والتنكير يدل على الكمال ، أى : مغفرة تامة كاملة .
وثالثها - قوله : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } والمراد منه الثواب الرفيع .
والحاصل : أنه - سبحانه - شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة . أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } .
وأما في الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب ، وإما جلب الثواب .
أما دفع العقاب فهو المراد بقوله { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ . . . } وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة :
( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم ) . .
أولئك هم المؤمنون حقاً . . فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان . . هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين . . إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ؛ ولا بمجرد اعتناقها ؛ ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها . . إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي ، إلا إذا تمثل في تجمع حركي . . أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي ، لا يصبح [ حقاً ] إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية . .
وهؤلاء المؤمنون حقاً ، لهم مغفرة ورزق كريم . . والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله . . وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم . بل هي أكرم الرزق الكريم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُولََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وَالّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ والّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم ونصروا دين الله ، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقّا ، لا من آمن ولم يهاجر دار الشرك وأقام بين أظهر أهل الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوّهم . لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يقول : لهم ستر من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنها ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يقول : لهم في الجنة طعم ومشرب هنيّ كريم ، لا يتغير في أجوافهم فيصير نَجْوا ، ولكنه يصير رشحا كرشح المسك . وهذه الاَية تنبىء عن صحة ما قلنا أن معنى قول الله : بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ في هذه الاَية ، وقوله : ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إنما هو النصرة والمعونة دون الميراث لأنه جل ثناؤه عقب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده دون من لم يهاجر بقوله : وَالّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ والّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا . . . الاَية ، ولو كان مرادا بالاَيات قبل ذلك الدلالة على حكم ميراثهم لم يكن عقيب ذلك إلا الحثّ على مضيّ الميراث على ما أمر ، وفي صحة ذلك كذلك الدليل الواضح على أن لا ناسخ في هذه الاَيات لشيء ولا منسوخ .
وقوله تعالى : { والذين آمنوا وهاجروا } الآية ، آية تضمنت تخصيص المهاجرين والأنصار وتشريفهم بهذا الوصف العظيم ، و { حقاً } نصب على المصدر المؤكد لما قبله ، ووصف الرزق بالكريم معناه أنه لا يستحيل نجواً{[5493]} ، والمراد به طعام الجنة ، كما ذكر الطبري وغيره ولازم اللفظ نفي المذمات عنه ، وما ذكروه فهو في ضمن ذلك ، وقوله { من بعد } يريد به من بعد الحديبية وبيعة الرضوان وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك ، وكان يقال لها الهجرة الثانية ، لأن الحرب وضعت أوزارها نحو عامين ، ثم كان فتح مكة وبه قال صلى الله عليه وسلم
«لا هجرة بعد الفتح »{[5494]} ، وقال الطبري : المعنى من بعد ما بينت لكم حكم الولاية .
قال القاضي أبو محمد : فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بأنهم من الأولين في المؤازرة وسائر وأحكام الإسلام .