معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا} (76)

قوله تعالى : { قال } موسى { إن سألتك عن شيء بعدها } بعد هذه المرة { فلا تصاحبني } وفارقني ، وقرأ يعقوب : فلا تصاحبني بغير ألف من الصحبة . { قد بلغت من لدني عذراً } ، قرأ أبو جعفر ونافع وأبو بكر { من لدني } خفيفة النون ، وقرأ الآخرون ، بتشديدها ، قال ابن عباس : أي قد أعذرت فيما بيني وبينك . وقيل : حذرتني أني لا أستطيع معك صبراً . وقيل : اتضح لك العذر في مفارقتي .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا محمد بن عبد ا الأعلى القيسي ، ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه عن رقية ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله علينا وعلى موسى ، وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه لولا أنه عجل لرأى العجب ، ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ، قال : " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً لو صبر لرأى العجب " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا} (76)

ويراجع موسى نفسه . فيجد أنه قد خالف ما اتفق عليه مع الرجل الصالح مرتين ، فيبادر بإخبار صاحبه أن يترك له فرصة أخيرة فيقول : { إن سألتك } أيها الصديق { عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا } أى : بعد هذه المرة الثانية { فلا تصاحبنى } أى : فلا تجعلنى صاحبا أو رفيقا لك ، فإنك { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } أى : فإنك قد بلغت الغاية التى تكون معذورا بعدها فى فراقى ، لأنى أكون قد خالفتك مراراً .

وهذا الكلام من موسى - عليه السلام - يدلك على اعتذاره الشديد للخضر ، وعلى شدة ندمه على ما فرط منه ، وعلى الاعتراف له بخطئه .

قال القرطبى : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال يوما : " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب ، ولكنه قال : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي . . } " .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا} (76)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لّدُنّي عُذْراً } .

يقول تعالى ذكره : قال العالم لموسى ألَمْ أقُلْ لكَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْرا على ما ترى من أفعالي التي لم تُحط بها خبرا ، قال موسى له : إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها يقول : بعد هذه المرّة فَلا تُصَاحِبْنِي يقول : ففارقني ، فلا تكن لي مصاحبا قَدَ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرا يقول : قد بلغت العذر في شأني .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة : «مِنْ لَدُنِي عُذْرا » بفتح اللام وضم الدال وتخفيف النون . وقرأه عامة قرّاء الكوفة والبصرة بفتح اللام وضمّ الدال وتشديد النون . وقرأه بعض قرّاء الكوفة بإشمام اللام الضم وتسكين الدال وتخفيف النون ، وكأن الذين شدّدوا النون طلبوا للنون التي في لدن السلامة من الحركة ، إذ كانت في الأصل ساكنة ، ولو لم تشدّد لتحرّكت ، فشدّدوها كراهة منهم تحريكها ، كما فعلوا في «من ، وعن » إذ أضافوهما إلى مكنيّ المخبر عن نفسه ، فشدّدوهما ، فقالوا مني وعنّي . وأما الذين خفّفوها ، فإنهم وجدوا مكنيّ المخبر عن نفسه في حال الخفض ياء وحدها لا نون معها ، فأجروا ذلك من لدن على حسب ما جرى به كلامهم في ذلك مع سائر الأشياء غيرها .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان فصيحتان ، قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء بالقرآن ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من فتح اللام وضمّ الدال وشدّد النون . لعلتين : إحداهما أنها أشهر اللغتين ، والأخرى أن محمد بن نافع البصري :

حدثنا ، قال : حدثنا أمية بن خالد ، قال : حدثنا أبو الجارية العبدي ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرا مثقلة .

حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن حمزة الزيات ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاَية فقال : «اسْتَحيْا فِي اللّهِ مُوسَى » .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا بدل بن المحبر ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، قال : حدثنا داود ، في قول الله عزّ وجلّ إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسْتَحيْا فِي اللّهِ مُوسَى عِنْدَها » .

حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن حمزة الزيات ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه ، فقال ذات يوم : «رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْنا وَعلى مُوسَى ، لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأَبْصَرَ العَجَبَ وَلَكِنّهُ قالَ : إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرا » مُثَقلة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا} (76)

وقرأ الجمهور «فلا تصاحبني » ورواها أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عيسى ويعقوب «فلا تصحبني » ، وقرأ عيسى أيضاً «فلا تُصحبني » بضم التاء وكسر الحاء ورواها سهل عن أبي عمرو ، والمعنى فلا تصحبني علمك ، وقرأ الأعرج «فلا تَصحبنّي » : بفتح التاء والباء وشد النون ، وقوله { قد بلغت من لدني عذراً } أي قد أعذرت إلي ، وبلغت إلى العذر من قبلي ، ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلاً للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة ، وأيام التلوم ثلاثة فتأمله . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم من «لَدُنّي » بفتح وضم الدال وشد النون .

وهي «لدن » اتصلت بها نون الكناية التي في ضربني ونحوه{[7855]} ، فوقع الإدغام ، وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ نافع وعاصم «لَدُني » كالأولى إلا أن النون مخففة ، فهي «لدن » اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي ، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه{[7856]} ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «لَدْني » بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وهي تخفيف «لدني » التي ذكرناها قبل هذه وروي عن عاصم «لُدْني » بضم اللام وسكون الدال{[7857]} قال ابن مجاهد وهي غلط قال أبو علي هذا التغليظ يشبه أن يكون من جهة الرواية فأما على قياس العربية فهي صحيحة ، وقرأ الحسن «لَدْني » بفتح اللام وسكون الدال ، وقرأ الجمهور «عذْراً » وقرأ أبو عمرو وعيسى «عذُراً » بضم الدال ، وحكى الداني أن أبي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم «عذري » بكسر الراء وياء بعدها وأسند الطبري ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه ، فقال يوماً رحمة الله علينا ، وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب ، ولكنه قال { فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً }{[7858]} وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر ، حتى يقص علينا من أمرهما »{[7859]} ، وروي في تفسير هذه الآية أن الله جعل هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر ، حجة على موسى وعجباً له ، وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة ، نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم ، فلما أنكر أمر الغلام ، قيل له أين إنكارها هذا من وكرك للقبطي وقضائك عليه ؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك حجر البير لبنات شعيب دون أجر ؟


[7855]:يريد نون الوقاية التي تسبق ياء المتكلم لتقي الفعل من الكسر.
[7856]:قال أبو حيان في البحر المحيط: "وهو القياس؛ لأن أصل الأسماء إذا أضيفت إلى ياء المتكلم لم تلحق بها نون الوقاية نحو غلامي وفرسي".
[7857]:هي القراءة التي رواها أبو بكر عن عاصم، وكان الأفضل أن يذركرهما معا.
[7858]:ذكر السيوطي الحديث في الدر المنثور، وقال: أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه، ولفظه كما ذكره السيوطي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحمة الله علينا وعلى موسى ـ فبدأ بنفسه ـ ، لو كان صبر لقص علينا من خبره ، ولكن قال: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني}.
[7859]:هذا جزء من الحديث الذي رواه البخاري في تفسير سورة الكهف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب رضي الله عنهم، وقد أشرنا إليه من قبل.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا} (76)

أنْصف موسى إذ جعل لصاحبه العذر في ترك مصاحبته في الثالثة تجنباً لإحراجه .

وقرأ الجمهور : { لَّدُنّي } بتشديد النون قال ابن عطية : وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن فيها سنداً خاصاً مروياً فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير .

وقرأ نافع ، وأبو بكر ، وأبو جعفر { مِنْ لَدُنِي بتخفيف النون على أنه حذف منه نون الوقاية تخفيفاً ، لأن ( لدنْ ) أثقل من ( عَن ) ( ومَن ) فكان التخفيف فيها مقبولاً دونهما .

ومعنى { قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنّي عُذراً } قد وصلت من جهتي إلى العذر . فاستعير { بَلَغْتَ } لمعنى ( تحتّم وتعين ) لوجود أسبابه بتشبيه العذر في قَطع الصحبة بمكان ينتهي إليه السائر على طريقة المكنية . وأثبت له البلوغ تخييلاً ، أو استعار البلوغ لتَعيُّن حصول الشيء بعد المماطلة .