معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (11)

قوله تعالى : { قل } ، يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين .

قوله تعالى : { سيروا في الأرض } ، معتبرين ، يحتمل هذا : السير بالعقول والفكر ، ويحتمل السير بالأقدام .

قوله تعالى : { ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } ، أي : جزاء أمرهم ، وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك ، فحذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (11)

ثم أمر القرآن النبى صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بحال من سبقوهم عن طريق التطلع إلى آثارهم ، والتدبر فيما أصابهم ، والاتعاظ بما حل بهم فقال - تعال - :

{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } .

أى : قل - يا محمد - لأولئك المكذبين لك ، المستهزئين بدعوتك ، لا تغتروا بما أنتم فيه من قوة وجاه ، فإن ذلك لا دوام له ، وسيروا فى فجاج الأرض متدبرين متأملين ، فسترون بأعينكم آثار أقوام كانوا أشد منكم قوة وأكثر جمعا ، ولكن ذلك لم يمنع وقوع العذاب بهم حين بدلوا نعمة الله كفرا ، وحاربوا رسل الله والدعاة إلى دينه .

وقد ذكر القرآن الكريم فى سور متعددة أن آثار أولئك الأقوام المهلكين ، ما زال بعضها باقيا ، وإنها لتدعو العقلاء إلى الاتعاظ والاعتبار فقال - تعالى - : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } وقال - تعالى - فى شأن قوم لوط : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وقد أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطلب منهم السير فى الأرض للتفكر والتدبر ، لأنهم كانوا يستهزئون به صلى الله عليه وسلم فكانت المخاطبة منه لهم من قبيل النصيحة والتحذير .

وليس المراد مجرد النظر فى قوله ( فانظروا ) وبين قوله { ثُمَّ انظروا } ؟ قلت : جعل النظر مسببا عن السير فى قوله ( فانظروا ) فكأنه قيل : سيروا لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين . وأما قوله { سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا } فمعناه إباحة السير فى الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر فى آثار الهالكين ، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح .

وقد علق الشيخ ابن المنير على عبارة صاحب الكشاف فقال : " وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير فى المكانين واحداً ، ليكون ذلك سببا فى النظر ، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية ، وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير وأن السير وسيلة إليه لا غير وشتان بين المقصود والوسيلة " .

والذى نرجحه أن التعبير بثم هنا المفيدة للتراخى للإشارة إلى أن السير الذى هو وسيلة للتفكر مطلوب فى ذاته كما أن النظر الذى يصحبه التفكر والاعتبار مطلوب أيضاً ، وكأنه أمر بدهى نتيجة للسير ، أما التعبير بالفاء فى قوله " فانظروا " فلإبراز كون النظر مسببا عن السير ، ومترتبا عليه ، وكلا الأسلوبين مناسب للمقام الذى سيق من أجله ، ومتناسق مع البلاغة القرآنية .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (11)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ ثُمّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الأوثان والأنداد المكَذّبينَ بك الجاحدين حقيقة ما جئتم به من عندي : سِيرُوا فِي الأرْضِ يقول : جولوا في بلاد المكذبين رسلهم الجاحدين آياتي من قبلهم من ضُرَبائهم وأشكالهم من الناس . ثُمّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ المْكَذّبِينَ يقول : ثم انظروا كيف أعقبهم تكذيبهم ذلك الهلاك والعطب وخزي الدنيا وعارها ، وما حلّ بهم من سخط الله عليهم من البور وخراب الديار وعفوّ الاَثار . فاعتبروا به ، إن لم تنهكم حلومكم ، ولم تزجركم حجج الله عليكم ، فما أنتم مقيمون عليه من التكذيب ، فاحذروا مثل مصارعهم واتقوا أن يحلّ بكم مثل الذي حلّ بهم . وكان قتادة يقول في ذلك بما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ المْكَذّبِينَ دمر الله عليهم وأهلكهم ثم صيرهم إلى النار .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (11)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم وعظهم ليخافوا، فقال: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} بالعذاب، كان عاقبتهم الهلاك يحذر كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الأوثان والأنداد المكَذّبينَ بك الجاحدين حقيقة ما جئتم به من عندي:"سِيرُوا فِي الأرْضِ": جولوا في بلاد المكذبين رسلهم الجاحدين آياتي من قبلهم من ضُرَبائهم وأشكالهم من الناس. "ثُمّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ المْكَذّبِينَ": ثم انظروا كيف أعقبهم تكذيبهم ذلك الهلاك والعطب وخزي الدنيا وعارها، وما حلّ بهم من سخط الله عليهم من البور وخراب الديار وعفوّ الاَثار فاعتبروا به، إن لم تنهكم حلومكم، ولم تزجركم حجج الله عليكم، فما أنتم مقيمون عليه من التكذيب، فاحذروا مثل مصارعهم واتقوا أن يحلّ بكم مثل الذي حلّ بهم. وكان قتادة يقول في قوله: "قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ المْكَذّبِينَ": دمر الله عليهم وأهلكهم ثم صيرهم إلى النار.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} ليس على الأمر بالسير في الأرض، ولكن على الاعتبار والتفكر في ما نزل بأولئك بتكذيبهم الرسل لأنه عز وجل أراهم آيات عقلية وسمعية، فلم ينفعهم ذلك، فأراد أن يريهم آيات حسية ليمنعهم ذلك عن التكذيب والعناد.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

قُلْ دوخوا في الأرضِ، وسيحوا في سيركم فيها من الطول والعَرْضِ، ثم انظروا هل أفْلَتَ من حكمنا أحدٌ، وهل وجد من دونَ أمرنا مُلْتَحداً؟

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{سيروا في الأرض}، معتبرين، يحتمل هذا: السير بالعقول والفكر، ويحتمل السير بالأقدام.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: أي فرق بين قوله {فانظروا} وبين قوله: {ثُمَّ انظروا}؟ قلت: جعل النظر مسبباً عن السير في قوله: {فانظروا} فكأنه قيل سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله: {سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا} فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين. ونبه على ذلك ب"ثم"، لتباعد ما بين الواجب والمباح.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{قل سيروا...}، حض على الاعتبار بآثار من مضى ممن فعل فعلهم، وقال {كان} ولم يقل كانت لأن تأنيث العاقبة ليس بحقيقي، وهي بمعنى الآخر والمآل. ومعنى الآية {سيروا} وتلقوا ممن سار لأن العبرة بآثار من مضى إنما يستند إلى حس العين.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

.. اعلم أنه تعالى كما صبر رسوله بالآية الأولى، فكذلك حذر القوم بهذه الآية، وقال لرسوله: قل لهم لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها، بل سيروا في الأرض لتعرفوا صحة ما أخبركم الرسول عنه من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة، فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لابد وأن تشاهدوا تلك الآثار، فيكمل الاعتبار، ويقوى الاستبصار...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار، والعاقبة آخر الأمر...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

عاقبة الشيء: منتهاه وما آل اليه. {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين وكان المخاطبون بذلك أمّة أمّية، لم تدرس الكتب ولم تجالس العلماء فلها أن تظافر في الإخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم أمروا بالسير في الأرض، والنظر فيما حل بالمكذبين ليعتبروا بذلك وتتظافر مع الأخبار الصادق الحس فللرؤية من مزيد الاعتبار...وقال قوم: السير والنظر هنا ليسا حسيين بل هما جولان الفكر والعقل في أحوال من مضى من الأمم التي كذبت رسلها...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

ثم قال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي: فكروا في أنفسكم، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم، من العذاب والنكال، والعقوبة في الدنيا، مع ما ادَّخَر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نَجَّى رسله وعباده المؤمنين.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{قل سيروا} أي أوقعوا السير للاعتبار ولا تغتروا بإمهالكم وتمكينكم {في الأرض} -الآية، وهي كالدليل على قوله تعالى: {لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} [الأنعام: 7]... {ثم انظروا} وأشار إلى أن هذا أهل لأن يسأل عنه بقوله: {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المكذبين} أي أنعموا النظر وبالغوا في التفكر وأطيلوا التدبر إذا رأيتم آثار المعذبين لأجل تكذيب الرسل، فإنكم إذا شاهدتم تلك الآثار كمل لكم الاعتبار وقوي الاستبصار، وذلك إشارة إلى أن الأمر في غاية الانكشاف، فكلما طال الفكر فيه ازداد ظهوراً.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ولما كان كون أمر المستهزئين بالرسل إلى الهلاك بحسب سنة الله المطردة فيهم مما يرتاب فيه مشركو مكة الذين يجهلون التاريخ، ولا يأخذون خبر الآية فيه بالتسليم، أمر الله تعالى رسوله بأن يدلهم على الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (11)} أي قل أيها الرسول للمكذبين بك من قومك – الذين قالوا: لولا أنزل عليه ملك – سيروا في الأرض كشأنكم وعادتكم، وتنقلوا في ديار أولئك القرون الذين مكناهم في الأرض ومكنا لهم فيها ما لم نمكن لكم، ثم انظروا في أثناء كل رحلة من رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم، وما تسمعون من أخبارهم. وإنما قال: « عاقبة المكذبين» ولم يقل « عاقبة المستهزئين» أو الساخرين – والكلام الأخير في هؤلاء لا في جميع المكذبين – لأن الله تعالى أهلك من القرون الأولى جميع المكذبين، وإن كان السبب المباشر للإهلاك اقتراح المستهزئين الآيات الخاصة على الرسل، فلما أعطوها كذب بها المستهزئون المقترحون وغيرهم من الكافرين الذين كانوا مشغولين بأنفسهم ومعايشهم عن مشاركة كبراء مترفيهم بالاستهزاء والسخرية، وإذا كان المكذبون قد استحقوا الهلاك وإن لم يستهزئوا ولم يسخروا فكيف يكون حال المستهزئين والساخرين؟ لا ريب أنهم أحق بالهلاك وأجدر، ولذلك أهلك الله المستهزئين من قوم نبي الرحمة ولم يجبهم إلى ما اقترحوه لئلا يعم شؤمهم سائر المكذبين معهم، ومنهم المستعدون للإيمان الذين اهتدوا من بعد.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

فإن شككتم في ذلك، أو ارتبتم، فسيروا في الأرض، ثم انظروا، كيف كان عاقبة المكذبين، فلن تجدوا إلا قوما مهلكين، وأمما في المثلات تالفين، قد أوحشت منهم المنازل، وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل، أبادهم الملك الجبار، وكان بناؤهم عبرة لأولي الأبصار. وهذا السير المأمور به، سير القلوب والأبدان، الذي يتولد منه الاعتبار. وأما مجرد النظر من غير اعتبار، فإن ذلك لا يفيد شيئا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومما يستدعي الانتباه ذلك التوجيه القرآني:

(قل: سيروا في الأرض، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين).

والسير في الأرض للاستطلاع والتدبر والاعتبار؛ ولمعرفة سنن الله مرتسمة في الأحداث، والوقائع؛ مسجلة في الآثار الشاخصة، وفي التاريخ المروي في الأحاديث المتداولة حول هذه الآثار في أرضها وقومها.. السير على هذا النحو، لمثل هذا الهدف، وبمثل هذا الوعي.. أمور كلها كانت جديدة على العرب؛ تصور مدى النقلة التي كان المنهج الإسلامي الرباني ينقلهم إليها من جاهليتهم إلى هذا المستوى من الوعي والفكر والنظر والمعرفة.

لقد كانوا يسيرون في الأرض، ويتنقلون في أرجائها للتجارة والعيش، وما يتعلق بالعيش من صيد ورعي.. أما أن يسيروا وفق منهج معرفي تربوي.. فهذا كان جديدا عليهم. وكان هذا المنهج الجديد يأخذهم به؛ وهو يأخذ بأيديهم من سفح الجاهلية، في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة التي بلغوا إليها في النهاية.

ولقد كان تفسير التاريخ الإنساني وفق قواعد منهجية كهذه التي كان القرآن يوجه إليها العرب؛ ووفق سنن مطردة تتحقق آثارها كلما تحققت أسبابها -بإذن الله- ويستطيع الناس ملاحظتها؛ وبناء تصوراتهم للمقدمات والنتائج عليها؛ ومعرفة مراحلها وأطوارها.. كان هذا المنهج برمته في تفسير التاريخ شيئا جديدا على العقل البشري كله في ذلك الزمان. إذ كان قصارى ما يروى من التاريخ وما يدون من الأخبار، مجرد مشاهدات أو روايات عن الأحداث والعادات والناس؛ لا يربط بينها منهج تحليلي أو تكويني يحدد الترابط بين الأحداث، كما يحدد الترابط بين المقدمات والنتائج، وبين المراحل والأطوار.. فجاء المنهج القرآني ينقل البشرية إلى هذا الأفق؛ ويشرع لهم منهج النظر في أحداث التاريخ الإنساني. وهذا المنهج ليس مرحلة في طرائق الفكر والمعرفة. إنما هو "المنهج".. هو الذي يملك وحده إعطاء التفسير الصحيح للتاريخ الإنساني.

والذين يأخذهم الدهش والعجب للنقلة الهائلة التي انتقل إليها العرب في خلال ربع قرن من الزمان على عهد الرسالة المحمدية، وهي فترة لا تكفي إطلاقا لحدوث تطور فجائي في الأوضاع الاقتصادية، سيرتفع عنهم الدهش ويزول العجب، لو أنهم حولوا انتباههم من البحث في العوامل الاقتصادية؛ ليبحثوا عن السر في هذا المنهج الرباني الجديد، الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله العليم الخبير.. ففي هذا المنهج تكمن المعجزة، وفي هذا المنهج يكمن السر الذي يبحثون عنه طويلا عند الإله الزائف الذي أقامته المادية حديثا.. إله الاقتصاد..

وإلا فأين هو التحول الاقتصادي المفاجئ في الجزيرة العربية؛ الذي ينشى ء من التصورات الاعتقادية ونظام الحكم، ومناهج الفكر، وقيم الأخلاق، وآماد المعرفة، وأوضاع المجتمع، كل هذا الذي نشأ في ربع قرن من الزمان؟!

إن هذه اللفتة:

(قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين).

إلى جانب اللفتة التي جاءت في صدر هذه الموجة من قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم، فأهلكناهم بذنوبهم، وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين)..

إلى جانب أمثالها في هذه السورة وفي القرآن كله لتؤلف جانبا من منهج جديد جدة كاملة على الفكر البشري. وهو منهج باق. ومنهج كذلك فريد..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذه الجملة وزانها وزان البيان لمضمون الجملة التي قبلها ولذلك فصلت، فإنّ الجملة التي قبلها تخبر بأنّ الذين استهزأوا بالرسل قد حاق بهم عواقب استهزائهم، وهذه تّحدوهم إلى مشاهدة ديار أولئك المستهزئين. وليس افتتاح هذه الجملة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم منافياً لكونها بياناً لأنّه خوطب بأن يقول ذلك البيان. فالمقصودُ ما بعد القول. وافتتاحها بالأمر بالقول لأنّها واردة مورد المحاورة على قولهم {لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 1]. وهذه سلسلة ردود وأجوبة على مقالتهم المحكية آنفاً لتضمّنها التصميم على الشرك وتكذيب الرسالة، فكانت منحلّة إلى شبه كثيرة أريد ردّها وتفنيدها فكانت هاته الردود كلّها مفتتحة بكلمة {قل} ) عشر مرات. و {ثم} للتراخي الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل، فإنّ النظر في عاقبة المكذّبين هو المقصد من السير، فهو ممّا يُرتقى إليه بعد الأمر بالسير، ولأنّ هذا النظر محتاج إلى تأمّل وترسّم فهو أهمّ من السير. والنظر يحتمل أن يكون بصرياً وأن يكون قلبياً، وعلى الاحتماليين فقد علّقه الاستفهام عن نصب مفعوله أو مفعوليه. و {كيف} خبر لِ {كان} مقدّم عليها وجوباً. والعاقبة آخر الشيء ومآله وما يعقبه من مسبّباته. ويقال: عاقبة وعقبى، وهي اسم كالعافية والخاتمة. وإنّما وصفوا بِ {المكذّبين} دون المستهزئين للدلالة على أنّ التكذيب والاستهزاء كانا خلقين من أخُلاقهم، وأنّ الواحد من هذين الخلقين كاف في استحقاق تلك العاقبة، إذ قال في الآية السابقة {فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} [الأنعام: 10] وقال في هذه الآية {كيف كان عاقبة المكذّبين}. وهذا ردّ جامع لدحض ضلالاتهم الجارية على سنن ضلالات نظرائهم من الأمم السالفة المكذّبين...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

(قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ): أمر الله تعالى نبيه بأن يذكرهم بحال من سبقوهم وأن يروا آثارهم حسا، ثم يتدبروا فيها كفرا ليعرفوا أين ذهب هؤلاء فيستفيدوا من ذلك ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: أن يعرفوا أن هذه الحياة التي يعيشون فيها ليس لها دوام، بل إن لها انتهاء وأنها لا تبقى فيها باقية. والفائدة الثانية: أن أولئك الأقوام قد مكن لهم في الأرض بما لم يمكن لهم وما منعهم ملكهم الواسع وقوتهم الظاهرة من أن يؤخذوا كما يؤخذ أضعف الضعفاء وان النهاية واحدة لا فرق فيها، فالدنيا عرض زائل. الفائدة الثالثة: أن الله عذبهم بالإهلاك في الدنيا بسبب طغيانهم لأن الله تعالى لم يرد أن يجعل منهم حماة لشريعة خالدة فسيجدون في سيرهم أرض ثمود وأرض عاد وما فيهما من بنيان قوض عليهم، وأرض قوم لوط، وقد جعل الله تعالى سافلها فإذا كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعجل لهم العذاب مستهزئين فها هي ذي المثلات والعبر فليعتبروا وإلا فهم قوم بور، لا يتعظون ولا يعتبرون...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

نعلم أن الحق لم يقل أبدا: سيروا على الأرض؛ لأن الأرض ظرف يسير فيه الإنسان، والإنسان من ظروف في الأرض. وقد حدث هذا البلاغ من الله قبل أن نصل بالعلم إلى المعرفة أن الأرض كروية ومعلقة في الهواء، والهواء يحيط بها، وأن الهواء هو أقوات الإنسان بما فيه من أوكسجين وبما يغذي النبات من ثاني أوكسيد الكربون، ونعلم أن الإنسان يصير على الطعام لأسابيع ويصبر على الماء لأيام ولا يصبر على انقطاع الهواء عنه للحظات. ولذلك لا يملك الله الهواء لأحد أبدا، وهكذا عرفنا أن الهواء من جنس الأرض. وعندما يسير الإنسان فالهواء يحيطه، وعلى ذلك فهو يسير في الأرض. وهذا من الإعجاز الأدائي في القرآن...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لكي يوقظ القرآن هؤلاء المعاندين المغرورين يسلك في هذه الآية سبيلا آخر فيأمر رسوله أن يوصيهم بالسياحة في أرجاء الأرض ليروا بأعينهم مصائر أُولئك الذين كذبوا بالحقائق، فلعل ذلك يوقظهم من غفلتهم (قل سيروا في الأرض ثمّ انظروا كيف كان عاقبة المكذبين). لا شك أنّ لرؤية آثار السابقين والأقوام التي هلكت بسبب إِنكارها الحقائق تأثيراً أعمق من مجرّد قراءة كتب التّأريخ، لأنّ هذه الآثار تجسد الحقيقة ناطقة ملموسة، ولهذا استعمل جملة «انظروا» ولم يقل «تفكروا». ولعل استعمال «ثم» العاطفة التي تفيد عادة التراخي الزمني يراد منه أن لا يتعجلوا في سيرهم وفي إطلاق أحكامهم، عليهم أن يمعنوا النظر في تلك الآثار التي خلفتها الأقوام السالفة ويفكروا فيها ثمّ يأخذوا منها العبر ويروا عاقبة أعمال تلك الأُمم. فيما يتعلق بالسير والسياحة في الأرض وتأثيره في إيقاظ الأفكار انظر تفسير الآية (137) من سورة آل عمران في هذا التّفسير.