اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (11)

قوله تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ } كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية الأولى{[13303]} ، حَذَّرَ القوم في هذه الآية ، وقال لرسوله : قل لهم : لا تغتروا بما وَصَلْتُمْ إليه من الدنيا ولذَّاتها ، بل سيروا في الأرض لتعرفُوا صحة ما أخبركم الرسولُ عنه من نزول العذاب بمن كذب الرسل من الأمم السَّالفة قبلكم . يحذر كفار " مكّة " ، ويحتمل هذا السير أنْ يكون بالعقول والفِكَرِ ، ويحتمل السَّيْرَ في الأرضِ .

قوله : " ثُمَّ انْظُرُوا " : عطف على " سِيرُوا " ولم يجئ في القرآن العطف{[13304]} في مثل هذا الموضوع إلاَّ بالفاء ، وهنا جاء ب " ثم " فيحتاج إلى فَرْقٍ .

فذكر{[13305]} الزمخشري الفرق وهو : أنْ جَعَل النَّظَرَ مُسَبَّباً عن السَّيْرِ في قوله : " فانْظُرُوا " كأنه{[13306]} قيل : سِيُروا لأجْلِ النظرِ ، ولا تسيروا سَيْرَ الغافلين .

وهنا معناه إبَاحَةُ السَيَّرِ في الأرض للتجارة وغيرها من المَنَافِع ، وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبَّه على ذلك ب " ثمَّ " لِتَبَاعُدِ ما بين الواجب والمباح{[13307]} .

قال أبو حيَّان{[13308]} - رضي الله عنه - : وما ذكر أوَّلاً مُتَنَاقض ؛ لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السَّيْرِ ، فكان السَّيْرُ سبباً للنَّظَرِ ، ثم قال : فكأنه قيل : سيروا لأجْلِ النَّظَرِ ، فجعل السَّيْرَ مَعْلُولاً بالنَّظَرِ ، والنَّظَرِ سَبَبٌ له فَتَنَاقَضَا ، ودعوى أن " الفاء " سببيةٌ دعوى لا دَلِيلَ عليها ، وإنَّما مَعْنَاها التَّعْقِيبُ فقط ، وأمَّا " زَنَى ماعِز فَرُجم " فَفَهْمُ السببية من قَرِينَةٍ غيرها .

قال : " وعلى تقدير [ تَسْلِيم ]{[13309]} إفادتها السَّبَبَ ، فَلِمَ كان السيرُ هنا سَيْرَ إباحةٍ ، وفي غيره سَيْرَ إيجاب ؟ " .

وهذا اعتراض صحيح إلاَّ قوله : " إنَّ " الفاء " لا تفيد السَّبَبِيَّةَ " {[13310]} فإنه غيرُ{[13311]} مُرْضٍ ، [ ودليله في غير هذا الموضع ]{[13312]} ومثلُ هذا المكان في كون الزَّمَخْشَرِيّ جعل شيئاً عِلَّةً ، ثم جعله مَعْلولاً{[13313]} ، كما{[13314]} سيأتي إن شاء الله -تعالى- في أوَّلِ " الفتح " ، ويأتي هناك جوابه .

قوله : " كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ " كَيْفَ " خبرٌ مقدَّمٌ ، و " عاقبة " اسمها ، ولم يُؤنَّثْ فعلْها ؛ لأنَّ تأنيثها غير حقيقي ؛ ولأنها بتأويل المآلِ والمُنْتَهَى ، فإنَّ العاقبة مَصْدَرٌ على وزن " فاعلة " وهو محفوظ في ألْفَاظ تقدَّمَ ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يَصيرُ إليه .

والعاقبةُ إذا أطْلِقَتْ اختصت بالثواب قال تعالى : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف :128 ] وبالإضافة قد تستعمل في العُقُوبةِ كقوله تبارك وتعالى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوأى }

[ الروم :10 ] ، { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا }

[ الحشر :17 ] فَصَحَّ أن تكون اسْتِعَارةً من ضدِّهِ كقوله تعالى :

{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران :21 ] .

و " كَيْفَ " مُعَلِّقة للنظر ، فهي في مَحَلِّ نصبٍ على إسْقَاط الخافض ، لأنَّ معناه هنا التَّفَكُّرُ والتدبُّرُ . والله أعلم .


[13303]:في ب:المتقدمة.
[13304]:في ب: أن العطف.
[13305]:في ب: ذكر. وينظر: الكشاف 2/8.
[13306]:في ب: قال.
[13307]:ينظر: البحر المحيط للزركشي 1/275، البرهان لإمام الحرمين 1/313، سلاسل الذهب للزركشي 109، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/114، التمهيد للإسنوي 61، نهاية السول له 1/80، زوائد الأصول للشيخ زكريا الأنصاري 10، التحصيل من المحصول للأرموي 1/174، المستصفى للغزالي 1/75، حاشية البناني 1/83، الإبهاج لابن السبكي 1/60، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/138 حاشية العطار على جمع الجوامع 1/113، المعتمد لأبي الحسين 1/5، تيسير التحرير لأمير بادشاه 2/225، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/225، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/123، الموافقات للشاطبي 1/109، ميزان الأصول للسمرقندي 1/145 ـ 149، الكوكب المنير للفتوحي 130.
[13308]:ينظر: البحر المحيط 4/85.
[13309]:سقط في ب.
[13310]:في ب: السبب.
[13311]:في ب: ليس.
[13312]:في ب: في كتب النحو.
[13313]:في ب: ونظيره.
[13314]:في ب: ما.