البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (11)

عاقبة الشيء : منتهاه وما آل اليه .

{ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين وكان المخاطبون بذلك أمّة أمّية ، لم تدرس الكتب ولم تجالس العلماء فلها أن تظافر في الإخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم أمروا بالسير في الأرض ، والنظر فيما حل بالمكذبين ليعتبروا بذلك وتتظافر مع الأخبار الصادق الحس فللرؤية من مزيد الاعتبار ما لا يكون كما قال بعض العصريين :

لطائف معنى في العيان ولم تكن *** لتدرك إلا بالتزاور واللقا

والظاهر أن السير المأمور به ، هو الانتقال من مكان إلى مكان وإن النظر المأمور به ، هو نظر العين وإن الأرض هي ما قرب من بلادهم من ديار الهالكين بذنوبهم كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود .

وقال قوم : السير والنظر هنا ليسا حسيين بل هما جولان الفكر والعقل في أحوال من مضى من الأمم التي كذبت رسلها ، ولذلك قال الحسن : سيروا في الأرض لقراءة القرآن أي : اقرؤوا القرآن وانظروا ما آل إليه أمر المكذبين ، واستعارة السير { في الأرض } لقراءة القرآن فيه بعد ، وقال قوم : { الأرض } هنا عام ، لأن في كل قطر منها آثاراً لهالكين وعبراً للناظرين وجاء هنا خاصة { ثم انظروا } بحرف المهلة وفيما سوى ذلك بالفاء التي هي للتعقيب .

وقال الزمخشري : في الفرق جعل النظر متسبباً عن السير فكان السير سبباً للنظر ، ثم قال : فكأنه قيل : { سيروا } لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين ، وهنا معناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر في آثار الهالكين ونبه على ذلك ب { ثم } لتباعد ما بين الواجب والمباح ، انتهى .

وما ذكره أولاً متناقض لأنه جعل النظر متسبباً عن السير ، فكان السير سبباً للنظر ثم قال : فكأنما قيل : { سيروا } لأجل النظر فجعل السير معلولاً بالنظر فالنظر سبب له فتناقضا ، ودعوى أن الفاء تكون سببية لا دليل عليها وإنما معناها التعقيب فقط وأما مثل ضربت زيداً فبكى وزنى ماعز فرجم ، فالتسبيب فهم من مضمون الجملة لأن الفاء موضوعة له وإنما يفيد تعقيب الضرب بالبكاء وتعقيب الزنا بالرجم فقط ، وعلى تسليم أن الفاء تفيد التسبيب فلم كان السير هنا سير إباحة وفي غيره سير واجب ؟ فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع وبين تلك المواضع .