أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (57)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء } نزلت في رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما . وقد رتب النهي عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزوا ولعبا إيماء إلى العلة وتنبيها على أن من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة والبغضاء ، وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار على قراءة من جره وهم أبو عمرو والكسائي ويعقوب ، والكفار وإن عم أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصة لتضاعف كفرهم ، ومن نصبه عطفه على الذين اتخذوا على أن النهي عن موالاة من ليس على الحق رأسا سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كأهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين . { واتقوا الله بترك المناهي . { إن كنتم مؤمنين } لأن الإيمان حقا يقتضي ذلك . وقيل إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (57)

استئناف هو تأكيد لبعض مضمون الكلام الّذي قبله ، فإنّ قوله : { يأيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى أولياءَ } [ المائدة : 51 ] تحذير من موالاة أهل الكتاب ليظهر تميّز المسلمين . وهذه الآية تحذير من موالاة اليهود والمشركين الّذين بالمدينة ، ولا مدخل للنصارى فيها ، إذ لم يكن في المدينة نصارى فيهزأوا بالدّين . وقد عدل عن لفظ اليهود إلى الموصول والصلة وهي { الّذين اتّخذوا دينَكم هزؤاً } الخ لما في الصلة من الإيمان إلى تعليل موجب النّهي .

والدّين هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة ، فهو عنوان عقل المتديّن وروائدُ آماله وباعث أعماله ، فالذي يتخذ دين امرىء هزُؤاً فقد اتّخذ ذلك المتديِّن هزؤاً ورمَقه بعين الاحتقار ، إذ عَدّ أعظَمَ شيء عنده سخرية ، فما دون ذلك أوْلى . والّذي يَرمُق بهذا الاعتبار ليس جديراً بالموالاة ، لأنّ شرط الموالاة التماثل في التّفكير ، ولأنّ الاستهزاء والاستخفاف احتقار ، والمودّة تستدعي تعظيم الودود .

وأريد بالكفار في قوله : { والكفار } المشركون ، وهذا اصطلاح القرآن في إطلاق لفظ الكفّار ، والمراد بذلك المشركون من أهل المدينة الّذين أظهروا الإسلام نفاقاً مثل رفاعة بن زيد ، وسويد بن الحارث ، فقد كان بعض المسلمين يوادّهما اغتراراً بظاهر حالهما . روي عن ابن عبّاس : أنّ قوماً من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم . وقال الكلبي : كانوا إذا نادى منادي رسول الله قالوا : صياح مثل صياح العَير ، وتضاحكوا ، فأنزل الله هذه الآية .

وقرأ الجمهور { والكفّارَ } بالنّصب عطفاً على { الّذين اتخذوا دينَكم } المبيَّن بقوله : { من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم } . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب { والكفارِ } بالخفض عطْفاً على { الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، ومآل القراءتين واحد .

وقوله : { واتّقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي احذروه بامتثال ما نهاكم عنه . وذكر هذا الشرط استنهاض للهمّة في الانتهاء ، وإلهابٌ لنفوس المؤمنين ليظهروا أنّهم مؤمنون ، لأنّ شأن المؤمن الامتثال . وليس للشرط مفهوم هنا ، لأنّ الكلام إنشاء ولأنّ خبرَ كان لَقب لا مفهوم له إذ لم يقصد به الموصوف بالتّصديق ، ذلك لأنّ نفي التّقوى لا ينفي الإيمان عند من يُعتدّ به من علماء الإسلام الّذين فهموا مقصد الإسلام في جامعته حقّ الفهم .

وإذا أريد بالموالاة المنهي عنها الموالاة التّامة بمعنى الموافقة في الدّين فالأمر بالتّقوى ، أي الحذر من الوقوع فيما نُهوا عنه معلّق بكونهم مؤمنين بوجه ظاهر . والحاصل أنّ الآية مفسّرة أو مؤوّلة على حسب ما تقدّم في سالفتها { ومن يتوّلهم منكم فإنّه منهم } [ المائدة : 51 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (57)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا": أي صدّقوا الله ورسوله، "لا تَتّخِذُوا الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوا وَلَعِبا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ "يعني اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ومن قبل نزول كتابنا "أولياء "يقول: لا تتخذوهم أيها المؤمنون أنصارا وإخوانا وحلفاء، فإنهم لا يألونكم خبالاً وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة. وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين أنهم اتخذوا دينهم هزوا ولعبا بالدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره، أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيم، ثم يراجع الكفر بعد يسير من المدّة بإظهار ذلك بلسانه قولاً بعد أن كان يبدي بلسانه الإيمان قولاً وهو للكفر مستبطن، تلعبا بالدين واستهزاء به، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله: "وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإذَا خَلَوْا إلى شيَاطِينِهمْ قَالُوا إنّا مَعَكُمْ إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللّهُ يستهزئ بِهِمْ ويَمُدّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ". عن ابن عباس، قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما، فأنزل الله فيهما: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوا وَلَعِبا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والكُفّارَ أوْلِياءَ"... إلى قوله: "وَاللّهُ أعلَمُ بِمَا كانُوا يَكْتُمُونَ".

فقد أبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا من أن اتخاذ من اتخذ دين الله هزوا ولعبا من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله في هذه الآية، إنما كان بالنفاق منهم وإظهارهم للمؤمنين الإيمان واستبطانهم الكفر وقيلهم لشياطينهم من اليهود إذا خلو بهم: إنا معكم. فنهى الله عن موادّتهم ومحالفتهم، والتمسك بحلفهم والاعتداد بهم أولياء، وأعلمهم أنهم لا يألونهم خبالاً، وفي دينهم طعنا وعليه إزراء. وأما الكفار الذين ذكرهم الله تعالى ذكره في قوله: "مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والكُفّارَ أوْلِياءَ" فإنهم المشركون من عبدة الأوثان نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل الكفر أولياء دون المؤمنين.

"وَاتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ": وخافوا الله أيها المؤمنون في هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار أن تتخذوهم أولياء ونصراء، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدّمه إليكم بالنهي عنه إن كنتم تؤمنون بالله وتصدّقونه على وعيده على معصيته.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار "وإن وقع على جميع الأصناف، فهو في من ليس من أهل الكتاب أليق، وعليه أغلب، فلذلك أفرد بالذكر. وقال الحسن: المعنى بالكفار مشركو العرب، وإنما دخل غيرهم في الحكم بما صحب الكلام من الدليل وقال غيره: يدخل فيه جميع أصناف الكفار. وانما وصفهم الله تعالى بما كانوا عليه من التلاعب بالدين لأمرين: أحدهما -لإغراء المؤمنين بعداوتهم والبراءة منهم. الثاني- ذما لهم وتحذيرا من مثل حالهم لأنها حال السفهاء الذين لا خلاق لهم... واللعب: الأخذ على غير طريق الحق، ومثله العبث، وأصله من لعاب الصبي يقال: لعب يلعب لعبا اذا سال لعابه لأنه يخرج إلى غير جهته، وكذلك اللاعب يمر في غير جهة الصواب. وقوله:"إن كنتم مؤمنين ": قيل في معناه قولان: أحدهما -ان كنتم مؤمنين بوعده ووعيده. الثاني- إن من كان مؤمنا غضب لإيمانه على من طعن فيه. وكافأه بما يستحقه من المقت له...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى نهى في الآية المتقدمة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وساق الكلام في تقريره، ثم ذكر هاهنا النهي العام عن موالاة جميع الكفار وهو هذه الآية. هذه الآية تقتضي امتياز أهل الكتاب عن الكفار لأن العطف يقتضي المغايرة، وقوله {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} صريح في كونهم كفارا، وطريق التوفيق بينهما أن كفر المشركين أعظم وأغلظ، فنحن لهذا السبب نخصصهم باسم الكفر، والله أعلم.

معنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم إظهارهم ذلك باللسان مع الإصرار على الكفر في القلب، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة {وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون} والمعنى أن القوم لما اتخذوا دينكم هزوا وسخرية فلا تتخذوهم أولياء وأنصارا وأحبابا، فإن ذلك الأمر خارج عن العقل والمروءة.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله، من الكتابيين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون، وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي و أخروي، يتخذونها {هُزُوًا وَلَعِبًا} يستهزئون بها، {وَلَعِبًا} يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما نبه سبحانه على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه، أنتج ذلك قطعاً قوله منبهاً على علل أخرى موجهاً للبراءة منهم: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، ونبه بصيغة الافتعال على أن من يوالهم يجاهد عقله على ذلك اتباعاً لهواه فقال: {لا تتخذوا الذين اتخذوا} أي بغاية الجد والاجتهاد منهم {دينكم} أي الذي شرفكم الله به {هزواً ولعباً} ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله: {من الذين}.

ولما كان المقصود بهم منح العلم، وهو كاف من غير حاجة إلى تعيين المؤتي، بني للمجهول قوله: {أوتوا الكتاب} ولما كان تطاول الزمان له تأثير فيما عليه الإنسان من طاعة أو عصيان، و كان الإيتاء المذكور لم يستغرق زمان القبل قال: {من قبلكم} يعني أنهم فعلوا الهزو عناداً بعد تحققهم صحة الدين.

ولما خص عم فقال: {والكفار} أي من عبدة الأوثان الذين لا علم لهم نُقِلَ عن الأنبياء، وإنما ستروا ما وضح لعقولهم من الأدلة فكانوا ضالين، وكذا غيرهم، سواء علم أنهم يستهزؤون أولا، كما أرشد إليه غير قراءة البصريين والكسائي بالنصب {أولياء} أي فإن الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم، فلا تصح لكم موالاتهم أصلاً.

ولما كان المستحق لموالاة شخص -إذا تركه ووالى غيره- يسعى في إهانته، حذرهم وقوعهم بموالاتهم على ضد مقصودهم، فقال} واتقوا الله {من له الإحاطة الكاملة، فإن من والى غيره عاداه، ومن عاداه هلك هلاكاً لا يضار معه {إن كنتم مؤمنين} أي راسخين في الإيمان بحيث صار لكم جبلة وطبعاً، فإن لم تخافوه بأن تتركوا ما نهاكم عنه فلا إيمان.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وبعد، فلقد سلك المنهج القرآني في هذا السياق طرقا منوعة، لنهي الذين آمنوا عن تولي المخالفين لهم في عقيدتهم من أهل الكتاب والمشركين، ولتقرير هذه القاعدة الإيمانية في ضمائرهم وإحساسهم وعقولهم. مما يدل على أهمية هذه القاعدة في التصور الإسلامي؛ وفي الحركة الإسلامية على السواء..

وقد رأينا من قبل أنه سلك في النداء الأول طريق النهي المباشر، وطريق التخويف من أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده، فينكشف ستر المنافقين.. وسلك في النداء الثاني طريق التحذير من الردة بموالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين؛ وطريق التحبيب في أن يكونوا من العصبة المختارة. ممن يحبهم الله ويحبونه؛ وطريق الوعد بالنصر لحزب الله الغالب..

فالآن نجده في النداء الثالث في هذا الدرس للذين آمنوا يثير في نفوسهم الحمية لدينهم ولعبادتهم ولصلاتهم التي يتخذها أعداؤهم هزوا ولعبا. ونجده يسوي في النهي عن الموالاة بين أهل الكتاب والكفار، وينوط هذا النهي بتقوى الله؛ ويعلق على الاستماع إليه صفة الإيمان؛ ويقبح فعلة الكفار وأهل الكتاب ويصفهم بأنهم لا يعقلون:

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا -من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار- أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين. وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)..

وهي ملابسة مثيرة لكل من له حمية المؤمن؛ الذي لا يرى لنفسه كرامة إذا أهين دينه، وأهينت عبادته، وأهينت صلاته، واتخذ موقفه بين يدي ربه مادة للهزء واللعب.. فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الفعلة؛ ويرتكبونها لنقص في عقولهم. فما يستهزىء بدين الله وعبادة المؤمنين به، إنسان سوي العقل؛ فالعقل -حين يصح ويستقيم- يرى في كل شيء من حوله موحيات الإيمان بالله.

وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الموحيات، لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله. فالوجود كله يوحي بأن له إلها يستحق العبادة والتعظيم. والعقل حين يصح ويستقيم يستشعر جمال العبادة لإله الكون وجلالها كذلك، فلا يتخذها هزوا ولعبا وهو صحيح مستقيم.

ولقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار، كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب، في الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للجماعة المسلمة في ذلك الحين. ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى.. ولكن الله -سبحانه- كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة. وكان الله -سبحانه- يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين. وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا: إنهم نصارى كانوا أكثر عددا من اليهود ومن الكفار مجتمعين! فهؤلاء -كهؤلاء- قد ناصبوا الإسلام العداء، وترصدوه القرون تلو القرون، وحاربوه حربا لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر -رضي الله عنهما- حتى كانت الحروب الصليبية؛ ثم كانت "المسألة الشرقية "التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة؛ ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه؛ ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده؛ ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض.. وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون..

وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة. الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي، كما يبني نظامها الاجتماعي، كما يبني خطتها الحركية.. سواء.. وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين؛ وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين. ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية، ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب.

إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة، وبحسن معاملة أهل الكتاب؛ والذين قالوا: إنهم نصارى منهم خاصة.. ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا.. لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك. أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم. إن الولاء هو النصرة. هو التناصر بين فريق وفريق؛ ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب -كما هو الشأن في الكفار- لأن التناصر في حياة المسلم هو -كما أسلفنا- تناصر في الدين؛ وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس؛ ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم. وكيف يكون؟!

إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع، ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم؛ الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

..والدّين هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة، فهو عنوان عقل المتديّن وروائدُ آماله وباعث أعماله، فالذي يتخذ دين امرئ هزُؤاً فقد اتّخذ ذلك المتديِّن هزؤاً ورمَقه بعين الاحتقار، إذ عَدّ أعظَمَ شيء عنده سخرية، فما دون ذلك أوْلى. والّذي يَرمُق بهذا الاعتبار ليس جديراً بالموالاة، لأنّ شرط الموالاة التماثل في التّفكير، ولأنّ الاستهزاء والاستخفاف احتقار، والمودّة تستدعي تعظيم الودود.

وأريد بالكفار في قوله: {والكفار} المشركون، وهذا اصطلاح القرآن في إطلاق لفظ الكفّار، والمراد بذلك المشركون من أهل المدينة الّذين أظهروا الإسلام نفاقاً مثل رفاعة بن زيد، وسويد بن الحارث، فقد كان بعض المسلمين يوادّهما اغتراراً بظاهر حالهما. روي عن ابن عبّاس: أنّ قوماً من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم. وقال الكلبي: كانوا إذا نادى منادي رسول الله قالوا: صياح مثل صياح العير، وتضاحكوا، فأنزل الله هذه الآية.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) النداء للمؤمنين بالوصف الذي ميزوا به، واختصوا به دون الناس، وهو مناط رفعتهم وجامع وحدتهم، وإذا كان الدين هو الجامع لهم فالذين يسخرون منه، ويستهزئون به يصيبونهم في صميم ما عليه يجتمعون و به يعملون، وفي سبيله قدموا ويقدمون الفداء والمعنى: يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان لا تتخذوا نصراء وأحبابا أولئك الذين يسخرون من دينكم بجعله لعبة يلعبون بها، ومسلاة يتسلون في عبثهم بها، ويستهزئون به مستخفين فهذا النص تحريض على عدم الانتماء إليهم بذكر ما هو سر اجتماعهم، وفيه إشارة جلية إلى أنهم لا يمكن أن يكونوا نصراء يريدون العزة لهم، لأن ما به عزتكم واجتماعكم يتخذونه سخرية يلهون به ويعبثون.

وهنا مباحث لفظية في بيانها تقريب لمعنى النص السامي.

أول هذه المباحث – التفرقة بين الهزء واللعب، فهما في النص الكريم معطوف أحدهما على الآخر، وبمقتضى هذا العطف هما متغايران، وإن كانا ينتهيان إلى معنى واحد، وهو السخرية بالاستهزاء، والعبث فهم يسخرون من الدين ويسخرون من أهله، ويستهزئون بأهله، ويتعابثون به ويلعبون بحقائقه.

والهزء معناه المزح في الخفة، أو المزح في مقام الجد للسخرية بموضوعه، والعبث به، وقد يكون بالقيام بظاهر بعض الأعمال،وهو يخفى نقيضها، كما قال سبحانه وتعالى عن المنافقين (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون14) (البقرة).

وعلى هذا يكون معنى الاستهزاء أو الهزء مشتملا على معاني الاستخفاف والتهكم، والمزح العائب.

واللعب أصل معناه من لعاب الطفل، ويقال عن الطفل لعب بفتح العين إذا سال لعابه، ومعناه – على العموم – العمل الذي لا يقصد به نفع، ولا طلب ثمرة بل يقصد به مجرد إزجاء الفراغ والتسلية.

والمعنى الجملي للفظين: أنهم يسخرون من الدين باتخاذه موضع استهزاء ومزح، وموضع لعب وعبث لا يقصدون نحوه بشيء إلا بما يقصد به اللاعب للعبته وهذا أبعد ما تكون عليه الاستهانة،فهل يجوز لمؤمن أن يقبل موالاة هؤلاء، وهو لا يزال على صفة الإيمان؟

وقد وصف عملهم بأنهم اتخذوا الدين هزوا، أي جعلوه هزوا ولعبا، أي جعلوه مستهزئا يمزحون به ولعبة يلعبون بها، وقد قدر بعض العلماء محذوفا، وهو أن يكون موضع استهزاء ولعب.

المبحث الثاني من المباحث اللفظية

– قوله تعالى: (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء) و (من) هنا بيانية فيها بيان لأولئك الذي يستهزئون ويلعبون بدين الله دين الحق، وهم اليهود والنصارى وعبر عنهم ب (أوتوا الكتاب) لأن أصل شرعهم ينتمي إلى كتاب منزل وإن حرفوا فيه الكلم عن مواضعه وغيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، وهم كفار وليس كفر أعظم من كفر، إلا أن تكون بقية علم عندهم، وهي لا تجعل لهم مقاما أدنى في الكفر، ولو كانت في الإمكان التلاقي في بعض المعلومات الدينية التي لم يعبثوا بها.

وقد تكلم العلماء فقال الأكثرون: إن الكفار هم المشركون وأطلق عليهم الكفار دون إطلاقه على أهل الكتاب وقد علله بعضهم بأن كفرهم أشد، وعندي أنهم جميعا كفار، لقوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة1) (البينة). وليس كفرهم أعظم من كفر أهل الكتاب لأن كفرهم عن جهل وكفر المشركين عن علم ولا يمكن أن يكون الجهل عنصرا مشددا والعلم عنصرا مخففا ولكن ذكروا بوصف الكفار، لأنه لا وصف لهم غيره إذا لم يؤتوا بكتاب.

على أننا نرى أن عطف الكفار على أهل الكتاب من باب عطف العام على الخاص، فكلمة كفار تشمل كل كافر بمحمد صلى الله عليه وسلم، على أنه خص أهل الكتاب بالذكر لانه الموضوع من الأصل في عدم موالاة المؤمنين لليهود والنصارى، ثم عمم الحكم على الجميع ممن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

المبحث الثالث- في قوله تعالى: (واتقوا الله إن كنتم مؤمنين).

وكان الأمر بالتقوى في هذا المقام، للإشارة إلى أن ذلك هو الحصن الحصين الذي يغني عن طلب الأولياء لأن معنى التقوى اتخاذ الله سبحانه وتعالى وقاية دون شر الأشرار إذ إن النصرة لا تكون إلا منه، وهو المعاذ والملجأ والناصر والولي، ولأن اجتلاء النفس بتقوى الله تعالى وخشيته تجعل كل قوي مهما تكن سطوته لا يصل إلى إضعاف قلب مؤمن، ولأن اتخاذ غير الله تعالى وليا ينافي تقوى الله، واستشعار عظمته وجبروته سبحانه.

وقد بين سبحانه أن ذلك وصف أهل الإيمان ولذلك قال سبحانه: (إن كنتم مؤمنين). وقد أخذ سبحانه يبين بعض أوقات استهزائهم، قال سبحانه: