نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ} (26)

ولما جرت سنته الإلهية أنه يذكر ابتداء الخلق دليلاً على الإعادة سابقاً ولاحقاً ، وابتدأ هنا بذكر الحشر لما قام عليه من الدليل بإحياء الأرض ، توقع السامع تفصيل ابتداء الخلق الذي هو أدل دليل على البعث بعد إجماله في قوله { وإنا لنحن نحيي } فقال مفتتحاً بحرف التوقع : { ولقد خلقنا } أي بالعظمة الباهرة { الإنسان } أي الآنس بنفسه ، الناسي لغيره { من صلصال } أي طين يابس ، له عند النقر صلصلة أي صوت شديد متردد في الهواء ، فإن كان فيه مد من غير ترجيع فهو صلل ، فالمراد شديد يبسه ولكنه غير مطبوخ ، وأما المطبوخ فهو فخار : ثم بين أصل الصلصال فقال : { من حمإٍ } أي طين أسود منتن { مسنون * } أي مصبوب مهيأ لعمل ما يراد منه بالدلك والتحسين من الذهاب والاضطراب والجعل على طبع وطريقة مستوية ، وكل ذلك على غاية السهولة والطواعية والهوان ، فذكر أصل الإنسان وما وقع له مع إبليس - الذي هو أصل الجن كما أن آدم عليه السلام أبو البشر - من الكيد حتى أخرجه من دار الصفاء إلى دار الكدر ، ليحذره العقلاء من بني آدم ، وفي التنبيه بابتداء الخلق على وصول البشر إلى أصل كان بمحض القدرة مخالف لهم في التكوين بين أبوين ، وانتهاء الجن إلى أصل ليس خلقه كخلقهم تنبيه عظيم على انتهاء الموجودات إلى موجود لا يجانسهم ، بل هو خالق غير مخلوق ، فاعل بالاختيار ، واحد لا شريك له ، ولا اعتراض عليه ، قادر على ما يريد سبحانه ، وفي خلقه من الماء - الذي هو كالأب - والطين - الذي هو كالأم - بمساعدة النار والهواء من الحكمة أن يكون ملائماً لما في هذا العالم ، فيكون بقاءه بذلك الذي خلق منه في مأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره ، وذلك أدل على حكمة الخالق وعلمه ووحدانيته .

ومادة " صل " تدور على الصلصال الذي هو الطين مطلقاً ، أو الطين الحر يخلط بالرمل ، أو الطين ما لم يجعل خزفاً ، ويتفرع جميع معاني المادة منه ، لأن من لوازمه في أوله الماء واللين بنداوته وسهولة خلطه لغيره ، فيأتي الخفاء لأنه يغرز فيه بغير صوت ، ومنها قبول التصفية من الغش ، ومنها في آخره الصلابة لشدة اليبس ، فيلزم تضامّ الأجزاء وتضايقها على انتظام أو غير انتظام ، والصوت ، وشدة الانفصال بالتشقق ، ومن لوازمه التغير بالنتن ، فيأتي الخبث والفساد ، ومن لوازمه شدة الاختلاط بحيث إذا نشب فيه شيء عسر خلاصه ، ومن لوازمه تميزه عما عداه ، ومحل يصنع فيه .

فمن الصوت واليبس : صليل الحديد والإبل ونحو ذلك ، يقال : صل الحديد واللجام : امتد صوته ، فإن توهم ترجيع الصوت قيل : صلصل ، وصل البيض : سمع له طنين عند القراع ، والمسمار صليلاً : ضرب فأكره أن يدخل في الشيء ، والإبل صليلاً : يبست أمعاؤها من العطش فسمع لها صوت عند الشرب .

ومن الصوت : صلصل : أوعد وتهدد ، وقتل سيد العسكر - لظهور الصيت بذلك ، وصلصل الرعد : صفا صوته ، والكلمة : أخرجها متحذلقاً ، وطائر أو الفاختة ، والراعي الحاذق ، والمصلل - كمحدث : السيد الكريم الحسيب ، الخالص النسب ، والأسكف وهو الإسكاف عند العامة ، وتصلصل الغدير : جفت حمأته ، فتهيأ لأن يصوت يبسه ، والحلي : صوت ، وحمار صُلصُل وصُلاصل - بضمهما ، وصلصال ومُصلصِل : مصوت .

ومن النتن : صلول اللحم والماء ، يقال : صل اللحم صلولاً : أنتن ، والماء : أجن ، والصليان - بكسرتين مشددة اللام : ما تغير من اللحم ، والصلة - بالضم : الريح المنتنة .

ومن اليبس : الصلة ، وهي الجلد اليابس قبل الدباغ ، والنعل ، والأرض ، أو اليابسة - وصل السقاء صليلاً : يبس . أو أرض لم تمطر بين ممطورتين ، والصل - بالكسر : القرن ، وشجر ، والسيف القاطع .

ومن النداوة : الصلة ، وهي التراب الندي ؛ ومن الماء أعم من أن يكون كثيراً أو قليلاً : الصلة للمطرة الواسعة والمتفرقة القليلة ، والصلة - بالضم : بقية الماء وغيره ، وكذا الصلصلة والصلصل - بضمهما : بقية الماء في الغدير ، وكذا من الدهن والزيت ، وأما التفرق فمن التشقق ، والصلة : القطعة من العشب ، سميت باسم المطر تسمية للمسبب باسم السبب .

ومن اللين : الصلالة - بالكسر - لبطانة الخف أو ساقها ، والصلصل - كهدهد : ناصية الفرس ويفتح ، أو بياض في شعر معرفته ، وما ابيض من شعر ظهره ، وهذا من التمييز أيضاً ؛ ومن المحل : القدح أو الصغير منه ، والمصلة - بالكسر : الإناء يصفى فيه الشراب ؛ ومن الخبث : الصل - بالكسر للحية مطلقاً ، أو الدقيقة الصفراء ، والداهية ، والسيف القاطع - شبه بذلك لإهلاكه ، وإنه لصل أصلال : داهٍ منكر في الخصومة وغيرها ، وصلتهم الصالة : أصابتهم الداهية ، وهذا أيضاً من شدة الانتشاب ، ومن التشقق : الصال وهو الماء يقع على الأرض فتشقق .

ومن التصفية : صللنا الحب المختلط بالتراب : صببنا فيه ماء فعزلنا كلاًّ على حياله ، وصل الشراب صلاً صفاه ، والمصلة - بالكسر : الإناء يصفي فيه .

ومن تضام الأجزاء وتضايقها ، وقد يكون مع الانتظام ومنه : تلصيص البنيان ، أي ترصيصه ، وقد لا يشترط فيه الانتظام ومنه : التص بمعنى التزق ، واللص وهو تقارب المنكبين ، وتقارب الأضراس ، وتضام مرفقي الفرس إلى زوره ، واللصاء من الجباه : الضيقة ، والمرأة الملتزقة الفخدين لا فرجة بينهما ، والزنجي : ألص الأليتين ، وإغلاق الباب ؛ ومن إطلاقه على ما ليس منتظماً وإن لم يكن تقارب : اللصاء من الغنم ، وهي ما أقبل أحد قرنيها وأدبر الآخر ، ومن الخفاء الذي هو من لوازم الطين وهو ندي : اللص - بالفتح ، وهو فعل الشيء في ستر ، والسارق ، ويثلث .

ومادة " سن " تدور على الدلك ، ويلزمه التحسين ، فمن الدلك : السن - بالكسر ، وهو الضرس والحبة من الثوم - تشبه به ، والثور الوحشي ، وسنان الرمح ، ومكان البري من القلم ، والأكل الشديد ، والقرن ، وشعبة المنجل ، ومقدار العمر - لأنه لما مر على صاحبه كان كأنه دلكه ، والمسانّ من الإبل : الكبار ، وسن السكين وغيره فهو مسنون ، والمسن - بالكسر : آلة السن ، وسنن رمحه إليه : سدده ، وسن الأضراس : سوكها ، والإبل : ساقها سريعاً - لتدالكها عند الازدحام ، وسن الأمر : بينه - فكأنه هيأه لأن يركب فيدلك بالأفكار أو غيرها ، وسن الطين : عمله فخاراً ، وفلاناً : طعنه بالسنان أو عضه بالأسنان ، والفحل الناقة : كبها على وجهها ، وعليه الدرع أو الماء : صبه ، والطريقة : سارها ، واستن : استاك .

والفرسُ : قمص ، والسراب : اضطرب ، والسنة - بالكسر : الفأس لها خلفان ، والسنة - بالضم : السيرة أو الطبيعة - كأنها عولجت حتى انقادت ، والسنة من الله : حكمه وأمره ونهيه ، وسنن الطريق - مثلثة وبضمتين : نهجه وجهته ، وجاءت الريح سناسن : على طريقة واحدة ، والحمأ المسنون : المنتن - لأنه تهيأ لأن يدلك بالآلةجبلاً حتى يصلح لما يستعمل فيه ، والفحل يسانّ الناقة : يكدمها ويطردها حتى ينوخها ليسفدها ، والسنين - كأمير : ما يسقط من الحجر إذا حككته ، والأرض التي أكل نباتها كالمسنونة ، والسنسن - بالكسر : العطش - كأنه سن الأمعاء حتى أحرقها ، ورأس المحالة ، أي البكرة العظيمة ، وحرف فقار الظهر كالسن والسنسنة ، ورأس عظام الصدر ، أو طرف الضلع التي في الصدر ، والمستسن : الطريق المسلوك ، والمستن : الأسد ، والسنن - محركة : الإبل تستن في عدوها ، والسنينة - كسفينة : الرمل المرتفع المستطيل على وجه الأرض ، وهو من المسنون بمعنى المصبوب : وسنني هذا الشيء : شهى إليّ الطعام - كأنه سن المعدة حتى قطعت بعد كلالها ، وتسانت الفحول : تكادمت ، والنّس : سرعة الذهاب ، ويلزمه تدالك الأعضاء ، ونسيس الإنسان : مجهوده - لأن ذلك لا يكون إلا بعد أشد الاضطراب ، والنسيسة : الحشاشة ، وهي بقية الروح من المريض والجريح - كأنها صدمت حتى ذهب أكثرها ، ونس اللحم : ذهب بلله من شدة الطبخ - لأن إحراق النار أعظم دلكٍ ، وكذا نس الحطب - إذا أخرجت النار زبده على رأسه - لقيام الإحراق مقام الرضخ فيما يستخرج دهنه ، ونس من العطش : جف ، من ذلك ؛ ومن التحسين : سنن المنطق - إذا حسنه ، وسن الأمر : بينه ، والطين : عمله فخاراً ، والمال : أرسله في الرعي أو أحسن القيام عليه حتى كأنه صقله ، والشيء : صوره ، والسنة - بالضم : الوجه ، أو حُرُّه ، أو دائرته ، أو الصورة أو الجبهة ، ورجل مسنون الوجه : مملسه حسنه سَهْلُه ، أو في وجهه وأنفه طول ، وكل ذلك يرجع إلى الدلك أيضاً - والله أعلم . وقال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : المسنون : الرطب ، ومعناه المصبوب ، لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب ؛ وقال الرازي في اللوامع : وهذا إشارة إلى درجات خلق آدم عليه السلام ومراتبه ، وأشار الله تعالى إلى ذلك في مواضع مختلفة حسبما اقتضته الحكمة فقال في موضع

{ خلقه من تراب }[ آل عمران :59 ] إشارة إلى المبدإ الأول ، وفي آخر { من طين } إشارة إلى الجمع بين الماء والتراب ، وفي آخر { من حمإٍ مسنون } إشارة إلى الطين المتغير المستقر على حالة من الاعتدال تصلح لقبول الصورة ، وفي آخر { من صلصال } إشارة إلى يبسه وسماع صلصلة منه ، وفي آخر

{ من صلصال كالفخار }[ الرحمن :14 ] وهو الذي قد أصلح بأثر من النار فصار كالخزف ، وبهذه القوة النارية حصل في الإنسان أثر من الشيطنة - انتهى . وقال الرماني : وقد تضمنت الآيات البيان عمّا يوجبه تقليب الحيوان من حال إلى حال من جاعل قادر قلّبه من أصل هو أبعد شيء من حال الحيوان إلى الحيوان ، وقال : إن الحكمة في جعله من الحمأة العبرة في أنه قلب من تلك الحال الحقيرة في الصفة إلى هذه الحال الجليلة .