{ بسم الله } الواحد الأحد الجامع لما شتت من بدد { الرحمن } الذي جمع خلقه في رحمة البيان { الرحيم * } الذي خص الأبرار بما أباحهم الرضوان .
لما ختم التي قبلها بعنوان الكتاب ، ابتدأ هذه بشرح ذلك العنوان ، وأوله وصفه بأنه جامع والخير كله في الجمع ، والشر كله في الفرقة ، فقال تعالى : { الر تلك } أي هذه الآيات العالية المقام ، النفيسة المرام { آيات الكتاب } أي الكامل غاية الكمال الذي لا كتاب على الحقيقة غيره ، الجامع لجميع ما يقوم به الوجود من الخيرات ، القاطع في قضائه من غير شك ولا تردد ، الغالب بأحكامه القاهرة في وعده ووعيده وأحكامه في إعجازه لجميع من يعانده .
ولما كان الغالب في هذه السورة القطع الذي هو من لوازم الكتاب قدمه ، وذلك أنه قطع بأمر الأجل والملائكة ، وحفظ الكتاب والرمي بالشهب ، وكفاية المستهزئين ، فكان كما قال سبحانه { و } آيات { قرآن } أي قرآن جامع ناشر مفصل واصل ، إذ التنوين للتعظيم { مبين * } لجميع ما يجمع الهمم على الله فيوصل إلى السعادة ، وهذه الإبانة - التي لم تدع لبساً - هو متصف بها ، مع كونه جامعاً للأصول ناشراً للفروع لا خلل فيه يدخل منه عليه ، ولا فصم يؤتى منه إليه ، فأعجب لأمر حاوٍ لجمع وفرق وفصل ووصل : والإبانة : إظهار المعنى للنفس بما يميزه عن غيره ، لأن أصل الإبانة الفصل : فهذا شرح كونه بلاغاً ، فمقصود هذه السورة اعتقاد كون القرآن بلاغاً جامعاً للأمور الموصلة إلى الله ، مغنياً عن جميع الأسباب ، فلا ينبغي الالتفات إلى شيء سواه { ذرهم يأكلوا } ، { لا تمدن عينيك } { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } وكان الجمع بين الوصفين الدال كل منهما على الجمع إشارة إلى الرد عليهم في جعلهم القرآن عضين ، وأن قولهم شديد المباعدة لمعناه . مع أن المفهومين - مع تصادقهما على شيء واحد - متغايران ، فالكتاب : ما يدون في الطروس ، والقرآن : ما يقرأ باللسان ، فكأن الأول إشارة إلى حفظه في الطروس بالكتابة ، والثاني إلى حفظه في الصدور بالدراسة ، وسيأتي قوله { وإنا له لحافظون } مؤيداً لذلك ، وكل من مادتي كتب وقرأ بجميع التقاليب تدور على الجمع .
أما " كتب " - وتنقلب إلى كبت وتبك وبكت وبتك - فقال في المجمل : كتبت الكتاب أكتبه وهو من الجمع ، والكتاب أيضاً : الدواة - تسمية للشيء باسم ما هو آلته ، والمكتب - كمعظم : العنقود أكل بعض ما فيه - تشبيهاً له بالمكتوب ، والكتيبة : الجيش والجماعة المستحيزة من الخيل إذا أغارت من المائة إلى الألف - انتهى . وكتبت البغلة - إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة ؛ وقال القزاز : وأصله - أي الكتاب - ضمك الشيء إلى الشيء ، فكأنه سمي بذلك لضم الحروف بعضها إلى بعض ، كتبت المزادة - إذا خرزتها ، يعني : فضممت بعضها إلى بعض .
والكتبة - بالضم : السير يخرز به ، وما يكتب به حياء الناقة لئلا ينزى عليها ، والإكتاب : شد رأس القربة ، والكتيبة : جماعة تكتبوا ، أي تجمعوا ، وتكبت الرجل - بتقديم الموحدة - إذا تقبض ، ومنه الكتاب - بضم الكاف وتخفيف التاء الفوقانية لسهم صغير يتعلم به الصبيان الرمي - كذا قال القزاز إنه مخفف ، وفي القاموس : وزنه كرمان - وزاد أنه مدور الرأس ، وكتبت الناقة تكتيباً : صررتها ، واكتتب بطنه : أمسك ، والمكتوتب : الممتلىء والمنتفخ ؛ ويلزم الجمع القطع والغلبة التي هي من لوازم القدرة ، فمن القطع : الكتاب بمعنى الفرض والحكم والقدر ؛ والبتك : القطع ولذلك قيل للسيف : باتك ، أي قاطع ، ومن الغلبة والقدرة : الكتاب بمعنى القدر ، قال ابن الأعرابي : والكاتب عندهم العالم ، وقال القزاز : والكاتب : الحافظ ، وهذان يرجعان أيضاً إلى نفس الجمع - لجمع الحافظ المحفوظ والعالم المعلوم ؛ وكبت الله العدو - بتقديم الموحدة : صرفه ذليلاً ، وهو من تكبت الرجل - إذا تقبض ، وعبارة القزاز : كبت أعداءه : ردهم بغيظهم ، أي فانقمعوا وانجمعوا عما كانوا انتشروا له ، وكبت الرجل - إذا صرعه على وجهه ، وبكته تبكيتاً - إذا أنبّه أو ضربه بعصى أو سيف ونحوهما ، لما يلزمه من تصاغر نفسه وتقبضها .
وأما قرأ ، مهموزاً - وينقلب إلى رقأ ، وأرق ، وأقر ، وغير مهموز يائياً وتراكيبه خمسة : قري ، وقير ، ورقي ، وريق ، ويرق وواوياً وتراكيبه ستة : قرو ، وقور ، ورقو ، وروق ، ووقر ، وورق - فهو للجمع أيضاً ، ويلزمه الإمساك ، وربما كان عنه الانتشار ، فمن الجمع : قرأت القرآن ، أي تلوته فجعلت بعض حروفه وكلماته وآياته تالياً لبعض متصلاً به مجموعاً معه ، ويلزم القراءة النسك ، ومنه القارىء والمتقرىء والقراء - كرمان . أي الناسك ، ويلزم عنه الفقه ، ولذا قيل : تقرأ - إذا تفقه ، وهو من الجمع نفسه أيضاً لأن الناسك جمع النسك إلى القراءة وانجمع همه ، والفقيه جمع الفقه إليها ؛ قال في المجمل : والقرآن من القرء وهو الجمع ، أي وزناً ومعنى ، وفي القاموس : وقرأ عليه السلام : أبلغه كأقرأه ، ولا يقال : أقرأه ، إلا إذا كان السلام مكتوباً ؛ وقال الزبيدي في مختصر العين : وقرأت المرأة قرءاً ، إذا رأت دماً ، وأقرأت - إذا حاضت فهي مقرىء - انتهى . فكأنه عبر بذلك عند رؤية الدم لأنه لا يعرف أن المرأة جمعته إلا برؤيته ، وهو من الانتشار الذي قد يلزم الجمع ، أو يكون فعل هنا للإزالة ، فمعناه : أزالت إمساك الدم كما أن هذا معنى أقرأت فإن فعل - لخفته وكثرة دوره - يتصرف في معاني جميع الأبواب ، وقال في المجمل : وأقرأت المرأة : خرجت من طهر إلى حيض أو حيض إلى طهر ، قلت : فالأول يكون فيه أفعل للإزالة ، والثاني للدخول في الشيء كما تقول : اتهم الرجل وأنجد - إذا دخل في تهامة أو نجد ، قال : والقرء : وقت يكون للطهر مرة وللحيض مرة ، قلت : فالأول للجمع نفسه ، والثاني لأنه دليل الجمع ، قال : والجمع قروء ، ويقال : { القروء } هو الطهر ، وذلك أن المرأة الطاهرة كان الدم اجتمع وامتسك في بدنها فهو من : قريت الماء ، وقرى الآكل الطعام في شدقه ، وقد يختلف اللفظان فيهمز أحدهما ولا يهمز الآخر ، والمعنى واحد إذا كان الأصل واحداً ، وقوم يذهبون إلى أن القرء : الحيض ، وفي القاموس : والقرء - ويضم : الحيض والطهر ضد - وقد تقدم تخريج ذلك ، والوقت - لأنه جامع لما فيه ، والقافية - لأنها جامعة لشمل الأبيات ، جمعه أقرؤ وقروء ، وجمع الحيض أقراء ، وكأن العلة في ذلك أنه لما كان جمع الكثرة هو الأصل في الجمع ، لأن المراد بالجمع نفسه الكثرة ، فكلما كان أكثر كان به أجدر ، لمّا كان الأصل كذلك ، وكان القرء بمعنى الطهر هو الأصل في مدلول الجمع ، كان أحق بجمع الكثرة الذي هو أعرق في الجمع ، ولما كان القرء بمعنى الحيض فرعاً ، كان له جمع القلة الذي هو فرع في باب الجمع ؛ وأقرأت : حاضت وطهرت ، وأقرأت الرياح : هبت لوقتها - لأن هبوبها دال على اجتماعها كظهور دم الحيض ، وقرأ الشيء : جمعه وضمه ، والحامل : ولدت - لأن ظهور الولد هو المحقق لجمعها إياه في بطنها ، وأقرأ : رجع ودنا وأخر واستأخر وغاب وانصرف وتنسك كتقرأ ، بعضه للإيجاب وبعضه للسلب ، والمقرأة - كمعظمة : التي ينتظر بها انقضاء أقرائها ، وقد قرئت : حبست لذلك ، وأقراء الشعر : أنواعه وانحاؤه - لأنها جامعة للأجزاء ، والقرءة - بالكسر : الوباء - لجمعه الهم ، واستقرأ الجمل الناقة : تاركها لينظر ألقحت أم لا - من التتبع والسبر ، وهو بمعنى جمع الأدلة ، وقرأت الناقة - إذا حملت ، فهي قارىء ، أي جمعت في بطنها ولداً ، وأقرأت - إذا استقر الماء في رحمها ؛ ومن الإمساك : رقأ الدم والدمع رقواً - إذا انقطعا ، قال أبو زيد : والرَّقوء - أي بالفتح : ما يوضع على الدم فيسكن ، ورقأ بينهم : أصلح وأفسد ، وفي الدرجة : صعد ، وهي المرقاة وتكسر ، ورقأ العرق : ارتفع - منه ما هو بمعنى الجمع ومنه ما هو بمعنى الانتشار والعلو الذي ربما لزماه ، ومن الإمساك : الأرق ، وهو السهر لأنه يمسك النوم ، والإرقان : دود يكون في الزرع - فكأنه يوجب الهم الذي يكون عنه الأرق ، ويمكن أن يكون من الانتشار الذي ربما يلزم الجمع ، ويمكن أن يكون من الجمع نفسه ، لأنه يجمع الهم - والله أعلم ؛ وفي القاموس : والإرقان بالكسر : شجر أحمر ، والحناء ، والزعفران ، ودم الأخوين - كأنه سبب للعكوف عليه بالاسترواح إليه ، أو أنه يجمع بصبغه لوناً إلى لون ، والإرقان أيضاً : آفة تصيب الزرع والناس كالأرقان محركة وبكسرتين وبفتح الهمزة وضم الراء ، والأرق والأرقان - بفتحهما ، والأراق - كغراب ، واليرقان - محركة ، وهذه أشهر داء يتغير منه لون البدن فاحشاً إلى صفرة أو سواد - كأن ذلك لمّا كان سبب الأرق كان هو الأرق البليغ ، وزرع مأروق وميروق : مؤوف ، والأقر - بضمتين : واد واسع مملوء حمضاً ومياهاً ، وهو واضح في معنى الجمع ، وقد مضى من هذه المادة جملة في آخر سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى }[ يوسف :109 ] وتأتي بقيتها إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله{ وفي آذانهم وقراً }[ الكهف :57 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.