نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ وَقُرۡءَانٖ مُّبِينٖ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحجر :

{ بسم الله } الواحد الأحد الجامع لما شتت من بدد { الرحمن } الذي جمع خلقه في رحمة البيان { الرحيم * } الذي خص الأبرار بما أباحهم الرضوان .

لما ختم التي قبلها بعنوان الكتاب ، ابتدأ هذه بشرح ذلك العنوان ، وأوله وصفه بأنه جامع والخير كله في الجمع ، والشر كله في الفرقة ، فقال تعالى : { الر تلك } أي هذه الآيات العالية المقام ، النفيسة المرام { آيات الكتاب } أي الكامل غاية الكمال الذي لا كتاب على الحقيقة غيره ، الجامع لجميع ما يقوم به الوجود من الخيرات ، القاطع في قضائه من غير شك ولا تردد ، الغالب بأحكامه القاهرة في وعده ووعيده وأحكامه في إعجازه لجميع من يعانده .

ولما كان الغالب في هذه السورة القطع الذي هو من لوازم الكتاب قدمه ، وذلك أنه قطع بأمر الأجل والملائكة ، وحفظ الكتاب والرمي بالشهب ، وكفاية المستهزئين ، فكان كما قال سبحانه { و } آيات { قرآن } أي قرآن جامع ناشر مفصل واصل ، إذ التنوين للتعظيم { مبين * } لجميع ما يجمع الهمم على الله فيوصل إلى السعادة ، وهذه الإبانة - التي لم تدع لبساً - هو متصف بها ، مع كونه جامعاً للأصول ناشراً للفروع لا خلل فيه يدخل منه عليه ، ولا فصم يؤتى منه إليه ، فأعجب لأمر حاوٍ لجمع وفرق وفصل ووصل : والإبانة : إظهار المعنى للنفس بما يميزه عن غيره ، لأن أصل الإبانة الفصل : فهذا شرح كونه بلاغاً ، فمقصود هذه السورة اعتقاد كون القرآن بلاغاً جامعاً للأمور الموصلة إلى الله ، مغنياً عن جميع الأسباب ، فلا ينبغي الالتفات إلى شيء سواه { ذرهم يأكلوا } ، { لا تمدن عينيك } { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } وكان الجمع بين الوصفين الدال كل منهما على الجمع إشارة إلى الرد عليهم في جعلهم القرآن عضين ، وأن قولهم شديد المباعدة لمعناه . مع أن المفهومين - مع تصادقهما على شيء واحد - متغايران ، فالكتاب : ما يدون في الطروس ، والقرآن : ما يقرأ باللسان ، فكأن الأول إشارة إلى حفظه في الطروس بالكتابة ، والثاني إلى حفظه في الصدور بالدراسة ، وسيأتي قوله { وإنا له لحافظون } مؤيداً لذلك ، وكل من مادتي كتب وقرأ بجميع التقاليب تدور على الجمع .

أما " كتب " - وتنقلب إلى كبت وتبك وبكت وبتك - فقال في المجمل : كتبت الكتاب أكتبه وهو من الجمع ، والكتاب أيضاً : الدواة - تسمية للشيء باسم ما هو آلته ، والمكتب - كمعظم : العنقود أكل بعض ما فيه - تشبيهاً له بالمكتوب ، والكتيبة : الجيش والجماعة المستحيزة من الخيل إذا أغارت من المائة إلى الألف - انتهى . وكتبت البغلة - إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة ؛ وقال القزاز : وأصله - أي الكتاب - ضمك الشيء إلى الشيء ، فكأنه سمي بذلك لضم الحروف بعضها إلى بعض ، كتبت المزادة - إذا خرزتها ، يعني : فضممت بعضها إلى بعض .

والكتبة - بالضم : السير يخرز به ، وما يكتب به حياء الناقة لئلا ينزى عليها ، والإكتاب : شد رأس القربة ، والكتيبة : جماعة تكتبوا ، أي تجمعوا ، وتكبت الرجل - بتقديم الموحدة - إذا تقبض ، ومنه الكتاب - بضم الكاف وتخفيف التاء الفوقانية لسهم صغير يتعلم به الصبيان الرمي - كذا قال القزاز إنه مخفف ، وفي القاموس : وزنه كرمان - وزاد أنه مدور الرأس ، وكتبت الناقة تكتيباً : صررتها ، واكتتب بطنه : أمسك ، والمكتوتب : الممتلىء والمنتفخ ؛ ويلزم الجمع القطع والغلبة التي هي من لوازم القدرة ، فمن القطع : الكتاب بمعنى الفرض والحكم والقدر ؛ والبتك : القطع ولذلك قيل للسيف : باتك ، أي قاطع ، ومن الغلبة والقدرة : الكتاب بمعنى القدر ، قال ابن الأعرابي : والكاتب عندهم العالم ، وقال القزاز : والكاتب : الحافظ ، وهذان يرجعان أيضاً إلى نفس الجمع - لجمع الحافظ المحفوظ والعالم المعلوم ؛ وكبت الله العدو - بتقديم الموحدة : صرفه ذليلاً ، وهو من تكبت الرجل - إذا تقبض ، وعبارة القزاز : كبت أعداءه : ردهم بغيظهم ، أي فانقمعوا وانجمعوا عما كانوا انتشروا له ، وكبت الرجل - إذا صرعه على وجهه ، وبكته تبكيتاً - إذا أنبّه أو ضربه بعصى أو سيف ونحوهما ، لما يلزمه من تصاغر نفسه وتقبضها .

وأما قرأ ، مهموزاً - وينقلب إلى رقأ ، وأرق ، وأقر ، وغير مهموز يائياً وتراكيبه خمسة : قري ، وقير ، ورقي ، وريق ، ويرق وواوياً وتراكيبه ستة : قرو ، وقور ، ورقو ، وروق ، ووقر ، وورق - فهو للجمع أيضاً ، ويلزمه الإمساك ، وربما كان عنه الانتشار ، فمن الجمع : قرأت القرآن ، أي تلوته فجعلت بعض حروفه وكلماته وآياته تالياً لبعض متصلاً به مجموعاً معه ، ويلزم القراءة النسك ، ومنه القارىء والمتقرىء والقراء - كرمان . أي الناسك ، ويلزم عنه الفقه ، ولذا قيل : تقرأ - إذا تفقه ، وهو من الجمع نفسه أيضاً لأن الناسك جمع النسك إلى القراءة وانجمع همه ، والفقيه جمع الفقه إليها ؛ قال في المجمل : والقرآن من القرء وهو الجمع ، أي وزناً ومعنى ، وفي القاموس : وقرأ عليه السلام : أبلغه كأقرأه ، ولا يقال : أقرأه ، إلا إذا كان السلام مكتوباً ؛ وقال الزبيدي في مختصر العين : وقرأت المرأة قرءاً ، إذا رأت دماً ، وأقرأت - إذا حاضت فهي مقرىء - انتهى . فكأنه عبر بذلك عند رؤية الدم لأنه لا يعرف أن المرأة جمعته إلا برؤيته ، وهو من الانتشار الذي قد يلزم الجمع ، أو يكون فعل هنا للإزالة ، فمعناه : أزالت إمساك الدم كما أن هذا معنى أقرأت فإن فعل - لخفته وكثرة دوره - يتصرف في معاني جميع الأبواب ، وقال في المجمل : وأقرأت المرأة : خرجت من طهر إلى حيض أو حيض إلى طهر ، قلت : فالأول يكون فيه أفعل للإزالة ، والثاني للدخول في الشيء كما تقول : اتهم الرجل وأنجد - إذا دخل في تهامة أو نجد ، قال : والقرء : وقت يكون للطهر مرة وللحيض مرة ، قلت : فالأول للجمع نفسه ، والثاني لأنه دليل الجمع ، قال : والجمع قروء ، ويقال : { القروء } هو الطهر ، وذلك أن المرأة الطاهرة كان الدم اجتمع وامتسك في بدنها فهو من : قريت الماء ، وقرى الآكل الطعام في شدقه ، وقد يختلف اللفظان فيهمز أحدهما ولا يهمز الآخر ، والمعنى واحد إذا كان الأصل واحداً ، وقوم يذهبون إلى أن القرء : الحيض ، وفي القاموس : والقرء - ويضم : الحيض والطهر ضد - وقد تقدم تخريج ذلك ، والوقت - لأنه جامع لما فيه ، والقافية - لأنها جامعة لشمل الأبيات ، جمعه أقرؤ وقروء ، وجمع الحيض أقراء ، وكأن العلة في ذلك أنه لما كان جمع الكثرة هو الأصل في الجمع ، لأن المراد بالجمع نفسه الكثرة ، فكلما كان أكثر كان به أجدر ، لمّا كان الأصل كذلك ، وكان القرء بمعنى الطهر هو الأصل في مدلول الجمع ، كان أحق بجمع الكثرة الذي هو أعرق في الجمع ، ولما كان القرء بمعنى الحيض فرعاً ، كان له جمع القلة الذي هو فرع في باب الجمع ؛ وأقرأت : حاضت وطهرت ، وأقرأت الرياح : هبت لوقتها - لأن هبوبها دال على اجتماعها كظهور دم الحيض ، وقرأ الشيء : جمعه وضمه ، والحامل : ولدت - لأن ظهور الولد هو المحقق لجمعها إياه في بطنها ، وأقرأ : رجع ودنا وأخر واستأخر وغاب وانصرف وتنسك كتقرأ ، بعضه للإيجاب وبعضه للسلب ، والمقرأة - كمعظمة : التي ينتظر بها انقضاء أقرائها ، وقد قرئت : حبست لذلك ، وأقراء الشعر : أنواعه وانحاؤه - لأنها جامعة للأجزاء ، والقرءة - بالكسر : الوباء - لجمعه الهم ، واستقرأ الجمل الناقة : تاركها لينظر ألقحت أم لا - من التتبع والسبر ، وهو بمعنى جمع الأدلة ، وقرأت الناقة - إذا حملت ، فهي قارىء ، أي جمعت في بطنها ولداً ، وأقرأت - إذا استقر الماء في رحمها ؛ ومن الإمساك : رقأ الدم والدمع رقواً - إذا انقطعا ، قال أبو زيد : والرَّقوء - أي بالفتح : ما يوضع على الدم فيسكن ، ورقأ بينهم : أصلح وأفسد ، وفي الدرجة : صعد ، وهي المرقاة وتكسر ، ورقأ العرق : ارتفع - منه ما هو بمعنى الجمع ومنه ما هو بمعنى الانتشار والعلو الذي ربما لزماه ، ومن الإمساك : الأرق ، وهو السهر لأنه يمسك النوم ، والإرقان : دود يكون في الزرع - فكأنه يوجب الهم الذي يكون عنه الأرق ، ويمكن أن يكون من الانتشار الذي ربما يلزم الجمع ، ويمكن أن يكون من الجمع نفسه ، لأنه يجمع الهم - والله أعلم ؛ وفي القاموس : والإرقان بالكسر : شجر أحمر ، والحناء ، والزعفران ، ودم الأخوين - كأنه سبب للعكوف عليه بالاسترواح إليه ، أو أنه يجمع بصبغه لوناً إلى لون ، والإرقان أيضاً : آفة تصيب الزرع والناس كالأرقان محركة وبكسرتين وبفتح الهمزة وضم الراء ، والأرق والأرقان - بفتحهما ، والأراق - كغراب ، واليرقان - محركة ، وهذه أشهر داء يتغير منه لون البدن فاحشاً إلى صفرة أو سواد - كأن ذلك لمّا كان سبب الأرق كان هو الأرق البليغ ، وزرع مأروق وميروق : مؤوف ، والأقر - بضمتين : واد واسع مملوء حمضاً ومياهاً ، وهو واضح في معنى الجمع ، وقد مضى من هذه المادة جملة في آخر سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى }[ يوسف :109 ] وتأتي بقيتها إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله{ وفي آذانهم وقراً }[ الكهف :57 ] .